مازلت أكرر مقولة سمعتها من أحد مسؤولي التعليم في دول مجلس التعاون: أصلحوا التعليم وأصلحوا به الحياة. ويحكى أن القائد الإيرلندي الشهير إيامون دي فاليرا الذي حكم جمهورية إيرلندا عدة مرات - تلك الدولة الأوروبية المستقلة رسميا عن بريطانيا العظمى عام 1922م، وقبلت عضوا في الأمم المتحدة عام 1955م- قال للبرلمان الإيرلندي الناشئ بأنه تسلم دولة لا موارد طبيعية فيها، ولم يترك الاستعمار السياسي والمذهبي بنية تحتية تبدأ منها الدولة برنامجها التنموي، وإنما ورث إنسانا يمكن أن يصنع به المستقبل، وأنه ليس في حاجة لمن هم في البرلمان، ولا من هم في أجهزة الدولة والقطاع الخاص، وإنما هو في حاجة ماسة لمن هم في مراحل التعليم الأولى. نبأنا التاريخ أن هذه الجزيرة ضربتها المجاعة العظمى بين عامي 1845 و1849م وفقدت على إثر ذلك ثلث سكانها حيث مات من الجوع والأمراض المتصلة به مليون إيرلندي، وهاجر حوالي مليون ونصف المليون خارج تلك الجزيرة، وهو ما أدى إلى اختلال سكاني ظلت تعاني منه إلى الستينيات من القرن العشرين. واليوم يخبرنا واقع هذه الدولة أنها في مصاف الدول الصناعية، أي العالم الأول (صناعيا)، ناتجها المحلي الإجمالي بلغ العام الماضي أكثر من 190 مليار دولار، ومعدل دخل الفرد حوالي 41300 دولار، تسهم فيه الصناعة ب 28%، وقطاع الخدمات ب 70%. أي أن الإنسان هو المحرك الأساس في أهم مصدرين للناتج المحلي الإجمالي لهذه الدولة. ولأنني سبق وأشرت في هذه الزاوية عندما تم تكليف سمو الأمير خالد الفيصل وزيرا للتربية والتعليم إلى أهمية اعطاء استقلالية للمناطق التعليمية، وأن تتفرغ الوزارة للتخطيط والتطوير والعناية بالجودة وتقويم عمل المناطق التعليمية، وأشرت أيضا إلى تجربة الجامعات واستقلالها، وأنه من المهم أن يرأس كل منطقة تعليمية مسؤول بمرتبة معالي، ولذلك فإنني لم أخف غبطتي عندما قرأت تصريح سمو الوزير: "أن هذا البرنامج قد تضمن في مبادرة إيجاد المميزات الوظيفية لمديري التربية والتعليم تمت الموافقة على إحداث خمس وظائف بالمرتبة الممتازة لمديري التربية والتعليم في مناطق الرياض ومكة المكرمة والمدينة المنورة والمنطقة الشرقية، ومحافظة جدة إضافة إلى إحداث 11 وظيفة بالمرتبة 15 لبقية المناطق ومحافظتي الطائف والأحساء، و29 وظيفة بالمرتبة 14 لمديري التربية والتعليم في بقية المحافظات". أعتقد أن سموه بدأ بوضع أساس متين يبني عليه مستقبل التعليم، ويعطي قيادات وطنية مؤهلة مكانة وظيفية وقرارا إداريا وتحميلها بعد ذلك مسؤولية الإنجاز، ووضعها تحت وطأة التقويم المستمر، ولا يمنع مطلقا أن تتميز منطقة تعليمية وتخفق أخرى فتتعلم من غيرها. لا أريد أن أقفز إلى نتائج تؤيد ما طالبت به منذ زمن بعيد بعدم المركزية، وإعطاء القرار كاملا للمناطق التعليمية ماليا وإداريا وتعليميا، ولكني سأعتبر أن مجرد تحقق ما أشار إليه سموه مؤشر على عزم أكيد لإحداث تغيير واسع النطاق يرتقي بالتعليم العام. ولأن المبنى مهم، والمنهج مهم فإن المعلم أهم من كل ذلك، وتأكيد الخطة الاستراتيجية على التأهيل النوعي للمعلمين باعتماد 5 مليارات لإيفاد 25 ألف معلم ومعلمة للتدرب في مدارس الدول المتقدمة، يعطي انطباعا بفهم عميق للواقع الذي يجب أن يتغير. ولن تكتمل أركان عملية التطوير إذا لم تكن الأسرة شريكا للمدرسة ليس على أساس الاختيار، وإنما بقوة النظام، إذ لاتمتلك المدارس مهما أوتيت من قوة أن تضطلع بدور الأسرة. لا أشك أن الحسم والحزم الملكي الذي قدم للمملكة أسرع مشروع مصيري لم يترك للبيروقراطية مجالا للتسويف، فقد كان المشروع واضحا برؤيته وأهدافه وحاجته الماسة، وبذلك وضع على كاهل وزارة التربية والتعليم عبئا ثقيلا أجزم أن سمو الأمير خالد الفيصل قادر على تحمل مسؤولياته وإدارته بالطريقة المناسبة التي تستثمر الموارد، وتفعّل الطاقات، وتستحث الجهود من أجل غد أفضل. لقد نَقَلَنا هذا المشروع الضخم من حالة التساؤل عما سيفعل الأمير المثقف، والقائد الذي تعود على المبادرة تلو الأخرى، وهو يتلمس أخطاء في وزارة أهلكت من قبله بتضخمها وكبر حجمها واتساع رقعتها، تشغل القائم عليها بأرتال العمل اليومي وتحجب عنه الرؤية لاستشراف مستقبلها، في ظل واقع يقال إنه أليم على مستويات عدة، أقول مع هذه النقلة ولد سؤال جديد يخرج من رحم الشفقة إلى فضاء الأمل وطريق العمل، لنبدأ في توقيت عقارب الزمن في عدها التنازلي لحقبة نوعية مختلفة لن نرى ثمارها غدا أو بعد غد، وإنما بعد جيل أو جيلين إن شاء الله. وليس المهم أن ندرك حجم ومستوى وجمال المنتج وانعكاساته على مستقبل هذا الوطن الأشم بأشخاصنا، وإنما المهم أن يراه وطن يمضي بجناحين نحو الغد، فأهلاً بالمستقبل.