×
محافظة المنطقة الشرقية

محافظ الأحساء يستقبل مدير الجوازات العقيد الحمام

صورة الخبر

علينا أن نتذكر أن أربعة أو ستة عقود.. وهي عقود نظم الانقلابات في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، لم تصنع مجتمعاً أفضل، ولا تعليماً يعتد به، ولا اقتصاداً ناهضاً، ولا مؤسسات سياسية يركن إليها.. حتى إذا تفجر الوضع في وجه الجميع اكتشفنا أن الوضع أكبر فداحة، والجهل أعظم تأثيراً، والعودة لحضن العشيرة والطائفة أقرب من استلهام ملامح الدولة الحديثة عندما كنا ندرس في علم فيزياء المواد ما يعرف بالأنتروبيا، لم أكن أدرك حينها أن هذا القانون الطبيعي يمكن أن يفسر بعض حالات الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. لأكتشف فيما بعد أن الأنتروبيا تفعل فعلها في مجتمعات ودول تعرضت لحالة من التبعثر ووجدت نفسها بين عشية وضحاها في مهب ريح التحولات. ولذا ليس من المنظور عودة سريعة لحالة استقرار في نظم هُزت أركانها وتعرضت لأكبر عملية تغيير منذ مطلع 2011. ما يحدث في ليبيا اليوم هو نموذج يمكن أن يُمرّر على العديد من الحالات العربية مع اختلاف نسبي نتيجة لعوامل داخلية وخارجية محسوبة. مجتمع عاش لأربعين عاماً تحت نظام سلطة متفردة مستبدة لم تصنع خلال تلك العقود الأربعة سوى أن مكنت للنظام بكل الوسائل والطرق. لتأتي موجة ضغط شديدة (شبيهة بحالة الأنتروبي في المواد) ساهمت فيها تطورات داخلية ودولية كسرت شوكة النظام المستقر بأدوات القوة وممكنات السلطة المطلقة وعلاقات المصلحة.. وبغض النظر عن ماهية الاستقرار، فقد كان نظاماً مستقراً تحت ضغط أدوات السلطة وقهرها. إلا أن ضغطاً من نوع آخر أحدث تفككاً كبيراً في بنية السلطة، مما أدى لكسر ذلك الطوق الرهيب.. هذا الضغط الكبير، أنتج حالة أنتروبيا واسعة فككت الجزئيات وأحدثت خللاً في منظومة كانت مستقرة بشروط النظام وأدواته. وحيث لن يكون من المتأتي بعد أن فقدت تلك الروابط فاعليتها وقدرتها أن تعود حالة الاستقرار على النحو السابق.. بل ستكون هناك مراحل اضطراب تتطلب شروطاً جديدة لاستقرار حالة، ستعاني قبل أن تعيد ترتيب جزيئاتها وتربط مكوناتها وتعلن عن ذاتها الجديدة. استعادة حالة استقرار لن تحدث قبل بناء علائق جديدة حول شكل الدولة وبنية مؤسساتها. ومحاولة استعادة الروابط القديمة لن تكون سوى توزيع لمأزق حالة عدم الاستقرار على الورثة الجدد. مأساة هذه الشعوب أن معاناتها قد تطول، لأسباب داخلية وخارجية، سياسية وثقافية، بعضها مرتبط بالذات الخارجة لتوها من مراحل القهر والإحباط، وبعضها مرتبط بالعوامل الجيوسياسية التي تجعل من ذلك البلد محط صراعات إقليمية ودولية. معظم الدول العربية التي علقت بها نيران الانتفاضات الشعبية منذ عام 2011 ضيعت من عمرها أربعة إلى ستة عقود.. تحت أوهام سلطات عززت سيطرتها ونفوذها فقط، وتركت شعوبها تتخبط بين أحلام لا تأتي وواقع مر بائس تتراكم عوائده عاماً بعد عام. كيف يمكن إعادة البناء بسرعة واستلهام حالة التغيير دون طبقة سياسية تملك التجربة والخبرة والقدرة على المبادرة، وتملك أيضاً قدراً معتبراً من الثقة الشعبية. ألم تعمل تلك النظم على تصفية الحياة السياسية، وتحول مقدرات الأوطان إلى عشوائيات طالت الذهن والسلوك والممارسة..!! كيف يمكن إعادة ما دمرته العقود الماضية في بلدان بلا مؤسسات قادرة على استعادة شرعية العمل من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه، والعودة سريعاً لمسار يعالج الخلل بجدية ويردم الفجوات بلا تردد ويستعيد العمل السياسي لواجهة الإنجاز؟ كيف يمكن لبلد أن يلم شتات صراع الميليشيات المسلحة، التي تحركها ايديولوجيات ضيقة وولاءات مناطقية وعشائرية لحضن الدولة التي يجب أن يخضع الجميع لقانونها، بينما تملك الميليشيات سلاحها ومصادر تمويلها؟ كيف يمكن لحياة سياسية فاعلة أن تكون عنواناً حيوياً لشرعية جديدة، طالما الثقة مفقودة بالجميع من الجميع. والتربص قائم من الجميع بالجميع. والتحالف بين الساسة والمليشيات قائم على قدم وساق. وأحلام الانفصال في بعض الأقاليم يراود البعض، وآخرون يستخدمون سلاحهم بلا تردد في صراعات الأشقاء الأشقياء؟ من المسؤول عن هذا الفشل الكبير؟ وقبل أن يوزع دم القتيل على قبائل الصراع الدامي اليوم.. علينا أن نتذكر أن أربعة أو ستة عقود.. وهي عقود نظم الانقلابات في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، لم تصنع مجتمعاً أفضل، ولا تعليماً يعتد به، ولا اقتصاداً ناهضاً، ولا مؤسسات سياسية يركن إليها.. حتى إذا تفجر الوضع في وجه الجميع اكتشفنا أن الوضع أكبر فداحة، والجهل أعظم تأثيراً، والعودة لحضن العشيرة والطائفة أقرب من استلهام ملامح الدولة الحديثة. ليبيا من بين كل الدول العربية تملك القدرة على بناء نفسها سريعاً، فالثروة النفطية والزراعية والسكان القليلون نسبياً والموقع الجغرافي الاستراتيجي على ضفاف المتوسط وعلى امتداد أكثر من ألف كليو متر، يعطيها ميزة تتجاوز بكثير إمكانات دول لازالت تبحث عن مصادر الحياة. إنما المشكلة ليست في هذه. المشكلة في التشوهات والعطالة التي طالت الإنسان طيلة تلك العقود، حتى إذا نزعت غمة استبداد الزعيم القائد.. جاءت غمة استبداد الميليشيات والجهويات والارتباطات التي لا تعني إلا مزيداً من التفكك والتنازع الدائم. ولذا ليس غريباً أن تكون تونس الدولة الوحيدة اليوم، التي تكاد تنجو من مأزق التمزق الداخلي. فتونس بورقيبة لم تكن ليبيا القذافي حتماً. التعليم والتأسيس الجيد له، وانتشار الوعي المبكر بمعنى الدولة، وفاعلية القوى السياسية لم يخمد أوارها في كل العقود الماضية. كما أن الوعي المدني بمعنى الاندماج في صلب الدولة والمجتمع لم يدع مجالاً لتكوينات قبلية أو جهوية قادرة على التأثير في المرحلة الانتقالية. التعليم الجيد الواسع الانتشار. والوعي الثقافي المنتشر، وتماسك مؤسسة الجيش، وقدرة القوى السياسية على صناعة مشروع انتقالي عبر ممارسة سياسية تدرك مخاطر الصراع في مرحلة حساسة ومعقدة.. عبر التنازلات المتبادلة وتطمين الآخر واكتساب الثقة.. هو المعبر الوحيد الذي سيجعل تونس تتجاوز عنق زجاجة التغيير لعالم أرحب من التنافس السلمي السياسي. في الأدبيات السياسية يتحدث الجزائريون عن العشرية الحمراء والعشرية السوداء.. وهم يعنون بها تلك العشريتين منذ أحداث 1989.. والتي دفع فيها الجزائريون - بغض النظر على ملابسات المرحلة - ثمناً باهضاً لاستعادة الاستقرار.. فكم سيكون هناك من عشريات الفوضى والاضطراب في تلك الدول التي تعرضت لرياح التغيير منذ مطلع عام 2011. في بلد عربي كسورية هناك ما هو أعظم وأفدح، إنها عشرية أنهار الدم والوجع الذي لم تعرفه البشرية منذ الحرب العالمية الثانية.. وفي بلدان أخرى ستكون مؤشرات الاضطراب والصراع الداخلي قائمة، ولن يتحقق في المنظور القريب - وفق المعطيات الحالية - تجاوز مأزق الصراع الداخلي لرحابة الوئام العام. ليس هناك مجال لعودة نظم شبيهة بتلك التي رحلت أو رُحِّلت.. كما لن يكون من المتأتي أن تنجو تلك البلدان سريعاً.. ربما تكون هذه عشرية الفوضى والاضطراب قبل أن تستقر انتروبيا التغيير على نظام جديد.. تتجاوز به هذا المأزق الذي يحير الأفهام أحياناً، حتى ليمكن وصفه بالعبثي، كما يخذل شعوباً طالما تطلعت للكفاية والكرامة.. فإذا بها تدفع ثمن هذه الانهيارات المتتالية.