لم يكن تعلقها بوالدها أمراً عادياً، ولم يخطر ببالها ان الموت سوف يسلبها منه عنوة وفي غفلة من الزمن، اذ لم يخطر ببالها ان الموت يتربص به عن قرب، وعندما حل ضيفا لم ينصرف إلا ومعه روح ابيها؛ فما كان من الابنة -ريم خيري شلبي- إلا أن تواري وجهها خلف الاستسلام امام ذلك الموت.. هاجسها الأول ان ترد ولو جزءاً ضئيلاً من جميل والدها الاديب الكبير خيري شلبي ورأت أن توثق ما لم يعرفه عنه الآخرون في كتاب يجمع مواقف لأبيها الاديب حجبها عن قرائه، مواقف تسكنها الانسانية والابوبة في ابهى صورها، فاصدرت كتابها "حكايات عم شلبي" الذي صدر عن دار جهاد للنشر والتوزيع. تقول ريم في كتابها "بعد وفاة أبي شعرت باحتياج شديد له وافتقدت نصائحه بشدة ووجدتني دون ان أدرى أستدعى روحه كلما أردت منه شيئا وتبدأ روحه تذكرني بموقف مشابه وتقدم لى الحل، ودون أن أدري ايضا وجدتني دائمة الحكي عنه في كل جلسة وكل مناسبة، مع ابني ومع أصدقائي حتى الفيس بوك، ولما رأيت لهفة محبيه لسماع المزيد والمزيد عن خيري شلبي الأب والإنسان، ولما لم تسعفني صفحات الفيس بوك، وجدت انه ما من بد في أن اجمع بعضا من هذه الحكايات الغاية في البساطة وكأنها نوع من الفضفضة في هذا الكتاب الصغير حتى يجد من يحبه ونسة صغيرة تطلعه على جوانب خاصة لشخصية هذا الرجل العظيم.. وكما كان يقول وتقول الست أم كلثوم (ولما أشوف حد يحبك يحلالي أجيب سيرتك وياه) فكانت ببساطة كحايات عم خيري. كما ترصد ريم موقفا آخر، فتقول إن من 18 سنة كان أول مرة نحتفل فيها بذكرى ميلاد أبي، حيث اعتدنا أن يكون الاحتفال مقصورا على إحضار بعض الهدايا الرمزية، وإعطائها له، ومنحه بعض القبلات التي كانت في الحقيقة هي كثير من الطاقة الإيجابية التي يمنحنا هو إياها، ولكن من 18 سنة وعندما كان ابنى أحمد قد بلغ عامه الأول قبل هذا التاريخ بحوالي ثلاثة أشهر، وقد أسعده جدا منظر الشمعة المضاءة على التورتة، قرر وقتها أبي أن نحتفل بكل مناسابات عيد الميلاد حتى يرى في عين أحمد هذه النظرة الجميلة، وحيث إنه كان أول عيد ميلاد يأتى بعدها، فقد أجبرناه على تقبل الاحتفال بعيد ميلاده وإطفاء الشمعة وتمني أمنية جديدة. في الحقيقة كان أبي قد توقف تماما عن تمني أي أمنية تخصه. فقد كان كل ما يتمناه في الحياة هى أمنيات تخص الآخرين.. لم أسمعه مرة يتمنى جائزة معينة أو منصبا معينا ولهذا السبب كانت دائما هدايا الله له تفوق كل الحدود وتسعده كل السعادة. اعتاد أبي منذ منحه أول جائزة في حياته وهي جائزة الدولة التشجعية أن يقسم علينا القيمة المادية للجائزة بالتساوي ويكتفي هو بالقيمة الأدبية.. حتى عندما كانت تطلب منه أمي الاحتفاظ بشىء لنفسه كان يقول لها إن ما يمنحه الله لي من رزق هو بسببكم ولكم أما أنا لا أطلب أكثر مما أنا فيه.. كان يعتبر دائما أمي هي الشريك الأول له فيما يحققه من نجاح لأن لولاها ما كان تفرغ لعمله وتحقيق أي شيء من هذا بحسب قوله.. كان يفرح لفرحنا ويطلب الرزق من أجلنا ويطلب الستر في الدنيا والآخرة.. لقد كان يقول لي دائما الإنسان ليس معصوما من الخطأ مهما حاول لذلك وجب عليه دائما أن يطلب الستر والعفو من الله. إن من أهم وأكثر ما علمني أبي ألا أنساق أبدا وراء نزواتي ورغباتي مهما كانت بسيطة وأن أربي نفسي ألا تشتهى إلا ما هو في حدود إمكانياتى.. وألا أتمنى أبدا ما يملكه غيرى.. وأن أنظر دائما لما لدي من نعم وألا التفت أبدا لما ليس لدي.. فقد كان يخبرني دائما أنه بما أنني أقدر على الحياة بدونه إذا هو لا يمثل لي أي أهمية.. وأنني إذا شعرت بالرغبة في حدوث شيء بشدة أن أتجاهله تماما.. حتى إذا أنعم الله علي به كبرت فرحتي وشكري لله وإذا لم يقدر لى الحصول عليه لا أشعر بالألم أو الحرمان. لم أره غير متسامح متصالح مع نفسه.. يحاسب نفسه قبل أن يحاسبه أحد.. حتى إذا فعل ما يراه الآخرون خطأ كان يخبرني دائما أنه غير معصوم من الخطأ ولكن أخطاءه دائما لا تؤذي الآخرين. وعن اليوم الأخير في حياة ابيها تقول ريم "لما بقيت أنا في حالة غريبة طول الوقت وكل لحظة بافكر بس في إن بابا مش كويس، رغم تألقه وظهوره في التليفزيون في برامج طويلة كل إسبوع وساعات مرتين في الأسبوع، وكل دا مش داخل دماغي، ماما ساعات تكلمني وتقوللى بابا بينزل عشان يحضر تقريبا كل الدفنات والعزاءات الخاصة بأي شخص يعرف إنه مات حتى لو معرفته بهذا الشخص ليست قوية، دا غير إنه كان دائم الزيارة للمرضى، وعندما يودع أحدهم أسألها هو عامل إيه تقولى الحمد لله كويس". ومن كثرة القلق لم تعرف عيوني للنوم طريقا وبمجرد أن أغمضت عيني واستسلمت للنوم وجدت أبي يتحرك أمامي بابتسامته الجميلة وفجأة رن جرس الموبايل الساعة الخامسة فجرا، وجدت رقم أمي، عرفت السبب على الفور صوتها عبر الهاتف في هدوء وخضة غريبة؛ ريم أنا بأكلم بابا مش بيرد ولا بيتحرك، قفلت من غير ما أرد على كلامها معرفش لبست إيه أخدت مفتاح العربية وأنا على كلمة واحدة يا حبيبى يابابا، لا أدرى إلى الآن كيف وصلت للبيت الساعة الخامسة والربع تقريبا، وفتحت البابا أمي تجلس على الكنبة ذاهلة تماما، دخلت حجرة النوم، أبي ينام كالأطفال مبتسماً كمن تلاعبه الملائكة أثناء النوم وأخي زين يقف بجوار السرير ينظر إليه وهو في عالم آخر.