في آخر مقال بدأت بسؤال طرحه عليّ الأستاذ تركي الدخيل في برنامج إضاءات بخصوص مايميز الكتابات العلمية عن غيرها من المجالات.. كالسياسة والاقتصاد والشؤون المحلية..؟ وقلت حينها إن أبرز مزاياها أنها (مثل الكتابات الرياضية) تسير بخط مستقيم وتنتهي دائماً بنتيجة واضحة.. وفي المقابل تتخبط المجالات الأخرى في دوائر لا تنتهي، وتكررها الأقلام بأساليب مختلفة دون خاتمة واضحة.. أما الميزة الثانية فهي أن الكتابات المعرفية دائمة التجدد، وتضيف لحصيلة القارئ المعرفية والفكرية - بعكس بقية المجالات التي تتركك كما بدأت.. باستثناء إصابتك بالصداع والاكتئاب وضياع الوقت.. وأذكر حينها أنه استطرد سائلاً: ولكنك تكتب بشكل يومي منذ عام 1991؛ ألا تعتقد أن الثورة المعلوماتية على الإنترنت ستجبرك قريباً على التقاعد القسري؟ فأجبته بلا تردد(أبداً).. بل على العكس تماماً، سأكون آخر المتقاعدين لأن المجالات التي أكتب فيها متجددة بطبيعتها والقراء يعشقون التجديد والإضافة ومعرفة المزيد.. ثم من قال إن الثورة المعلوماتية - أو شبكة الإنترنت - قادرة على الإبداع أو خلق الأفكار بذاتها.. البشر هم من يفعلون ذلك ويضيفون إليها، وجوجل على براعته ليس أكثر من باحث في ركام المعرفة الإنسانية.. وحين يكون الكاتب قادراً على خلق معارف جديدة - ويلقى أسلوبه قبولاً من الناس - سيبحثون عنه في كل مكان بصرف النظر عن وسيلة النشر ذاتها/ سواء كانت رقمية أو تقليدية أو حتى شفهية!! على أي حال تبقت ميزة ثالثة - للكتابة المعرفية - تتمثل في عدم اعتمادها على الرأي الشخصي وميول الكاتب فقط، بل وتضيف إليها مصادر واستشهادات وأدلة ترفع من مصداقيته الفكرة (كون المصدر قد يكون نصاً شرعياً أو بحثاً علمياً أو خبراً دولياً يصعب تكذيبه).. فالمقالات تشبة - في رأيي - مثلثاً متساوي الأضلاع والزوايا: في رأس المثلث تأتي الفكرة والدافع للكتابة (فبدون فكرة أو دافع لماذا تكتب أصلاً؟).. أما على الزاوية اليمنى - أو اليسرى إن شئت - فتأتي طريقة الصياغة وأسلوب الطرح (وكثيراً مانعشق أحد الكتاب لأسلوبه في الطرح رغم تكراره لذات الأفكار).. أما على الزاوية المقابلة فيوجد وحش كاسر يتحاشى معظم الكُتاب إيقاظه أو حتى المرور بجانبه يدعى "المصدر".. فالاستعانة بالمصادر مهمة شاقة من شأن الإيغال فيها إجهاد الكاتب وتحويل مقاله إلى بحث مصغر - ولهذا السبب يتحاشى معظم الكتاب الإشارة إليها ويكتفون بشغل القارئ "ذهاباً وإياباً" بين تطرف الفكرة وحدة الأسلوب!! .. على أي حال؛ بقي أن أشير إلى أن ماذكرته - في كلا المقالين - ليس بغرض "الحش" في الكتابات التنظيرية أو "الزهد" في القضايا المحلية، ولكنها مجرد محاولة لتوضيح الفوارق لمن يرغب بمعرفتها أو التخصص فيها مستقبلاً.. أما فيما يخص شخصي المتواضع فيشهد الله إنني لست عاجزاً عن الكتابة في أي مجال (بل ولي مقال في الأسبوع أخصصه للقضايا المحلية فقط) ولكنني ببساطة عاشق للمجالات المعرفية وأرتاح لكل ما ينتهي إلى نتيجة منطقية!! .. وانتظرونا يوم الجمعة القادم..