النسخة: الورقية - سعودي لا يمكن لمراقب أن يغفل عن مشهد غاية في القبح والسوء يتكرر كثيراً في المملكة العربية السعودية عبر وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، بل وحتى في زمن المنتديات الحوارية قبل ذلك. يتمثل هذا المشهد في مواقف عدائية غريبة يقوم بها رهط من أبناء هذا الوطن موجهة ضد الوطن ذاته وقياداته ومقدراته ومبادراته. الحقيقة أنني لا ألحظ مثل هذا المشهد في أية دولة أخرى، مهما بلغت مشكلات الدولة وتعثرت مقدراتها، ذلك أن الانتماء للوطن لا يمكن للمواطن الحق أن يساوم عليه. فكيف بمن يعيش في المملكة التي أنعم الله عليها بالخير والأمن و الاستقرار حتى أصبحت قبلة العالم لكل من يسعى إلى طلب الرزق؟ لم يبالغ هتلر عندما قال في مثل هؤلاء مقولته المشهورة: «لم أرَ في حياتي أحقر ممن ساعدني على احتلال بلاده». الذين أتحدث عنهم من خلال سلوكياتهم التي أضرت بنا كثيراً إلى حد النزف، ربما لن يترددوا في دعم العدو، وحدث ذلك، ولو باستحياء كما سيأتي في تفصيل هذه الظاهرة القبيحة. بدأ ذهولنا من مشاهدة هذه المواقف في وقت احتلال العراق للكويت، وإن كان شعور هؤلاء ربما تأسس قبل ذلك بـ10 أعوام تقريباً، من دون أن يكتشفه أحد. كان الوطن يعيش في تلك الفترة أياماً حرجة جداً تخللها إطلاق صواريخ «سكود» العراقية على بعض مدن المملكة. ساستنا وكتّابنا وقياداتنا العسكرية، ومعظم الشعب السعودي النبيل يسيرون في تناغم رائع كل بحسب مسؤوليته ودوره والهدف المشترك، بالطبع هو حماية المملكة ودحر العدوان. إلا أن تلك الأيام والليالي المليئة بالحيرة والترقب لم تغير من مواقف هؤلاء،، والله أعلم ماذا كان يدور في عقولهم في ذلك الوقت. لن أستغرب لو قيل لي إنهم تمنوا انتصارا عراقياً على دول الخليج. هم لم يصمتوا بالطبع، وإنتاجهم الصوتي مستمر، وعندما تستمع إليهم عبر ما يسمى بـ«الشريط الإسلامي» خلال تلك الأزمة، فلن تجد إلا التنديد بوجود القوات الأجنبية في المملكة متناسين المهمة التي أتت القوات لأجلها. في شريط آخر يتحدث أحدهم عن وجود مؤامرة غربية ضد العراق بسبب تهديده لإسرائيل. الكثير منهم نسي التهديد على الحدود والصواريخ، وذهب يقارع بعض السيدات السعوديات اللاتي غامرن في قيادة سياراتهن في محاولة منهن لكسر منع المرأة لقيادة السيارة، وحوّل هذه القضية الهامشية إلى أزمة «وطنية» متناسياً الجبهة الشمالية الشرقية. في كل الأحوال لم نسمع وقتها من هؤلاء أية إشارة أو إيماءة مفادها حب الوطن ناهيك عن الدفاع عنه. تم طرد قوات العراق، وعادت الكويت لأهلها، وتلك الأقوام لا ترى إلا حرمة وجود الجيوش الأجنبية، والترويج للعامة بأن هذه القوات أتت أساساً لاحتلال «بلاد الحرمين»، وهذا مصطلح يقصد منه المملكة، ويفضلونه على الدوام بدلاً من المملكة العربية السعودية. مع تفجيرات 11 سبتمبر ٢٠٠١، وتورط بعض الإرهابيين من المملكة في تلك العملية، ثم توغلت هذه العمليات في داخل الوطن في العام 2003، ووجدنا نفس الشخوص تبحث عن مبررات لكل هذه الأفعال. لا بأس غادرت القوات، واستوطنت في قاعدة جديدة لها في قطر، وتوقعنا حينها تغييراً في الخطاب. الموقف العدائي - مع الأسف - مستمر إلى أن حدث الانفجار، وانكشف الكثير من المستور مع ما يسمى بثورات الربيع العربي. لعلنا نتذكر «ساعة الصفر» التي حددها أحدهم من الخارج، وتراقصوا هم أنفسهم حولها، وأطلقوا عليها «يوم حنين»، وتوهموا بأن الشعب السعودي سيخرج وتسقط الحكومة. لكن دعونا نتساءل من هؤلاء المواطنون؟ وما هي انتماءاتهم؟ وما الذي دفعهم إلى هذا الحد من الكراهية المرة تلو الأخرى وإلى يومنا هذا؟ الواقع أن معظمهم وليس كلهم ينتمون إلى تيارات إسلامية حركية، خرجت قبل ثلاثة عقود، وأصبحنا نطلق على تلك الحقبة بزمن «الصحوة الإسلامية». تيارات مسيّسة تتخذ من الدين مظهراً لها، لكنها تشربت العداء للوطن، واتجهت لمفهوم الأمة ونبذ الوطنية. السؤال الملح في تلك الأيام، كيف تجاهلت الدولة هذه الأصوات وهم يسرحون ويمرحون في البلاد بلا ملاحقة قانونية مع كل ما أظهروه من تحريض؟ الإجابة على هذا السؤال ستدخلنا في دهاليز معقدة من التفاصيل، لكن السبب البديهي أن معظمهم دعاة ملتحين يعتلون المنابر، واعتقالهم ربما يحقق لهم مكاسب أكبر بكثير من المكاسب، التي ربما تتحقق للوطن، على الأقل في تلك الأيام. لذا فالدولة لم تجد أمامها إلا الصبر والتروي والترقب. أخيراً عندما نفد الصبر بعد المعانات والمكاشفات وانحسار فوائد تغليب حسن الظن، أصدرت الدولة الأوامر اللازمة بتجريم هذه الأفعال والأقوال ومن يتبناها. بصراحة، وأقولها جازماً تأخرنا كثيراً في هذه المواجهة، وتوغل الضرر ليصيب الوطن في أجزائه كافة، لكنها حكمة الله جلّت قدرته. الصحوة ربما تبدو حسنة في مظهرها، وهذا سبب تعاطف العامة معها، لكن جوانبها السيئة تغلب على كل حسن بها. بسبب الصحوة توسعنا في مسائل وفهم ما يسمى بـ«المخالفات الشرعية» إلى الحد الذي أصبح فيه التحريم على لسان كل داعية، على رغم من عدم وجود نصوص صريحة. رموزهم تصدوا للإعلام، واتهموا القائمين عليه بالزندقة. تصدوا للفن وحرّموه، وتوقفت مناسبات فنية كثيرة كان الناس يتسابقون إليها من قبل. توقف المسرح، وتم حجب الأصوات النسائية ما أمكن، سواء من على الخشبة أم التلفاز والإذاعة. تم التضييق على المراكز الترفيهية بشكل غير مسبوق، وتأسست مفردة «الاختلاط» التي لم نكن نسمع بها قبل الثمانينات الميلادية الماضية. أصبح هذا الاختلاط سبباً لإيقاف أي نشاط، حتى لو كان تجارياً في معارض دولية تقام في المملكة. حتى الرياضة وكرة القدم تحديداً وربما بسبب جماهيريتها، حاولوا تعطيلها لولا قوة وتصميم الراحل الكبير فيصل بن فهد - رحمه الله - الذي أدار ظهره لهم. باختصار تمكنت الصحوة في المملكة من بناء أكبر وأضخم باب لسد الذرائع عرفه التاريخ. وهكذا أصبحت البيئة في المملكة مملة جداً، ويغلب عليها الترقّب والحذر. تردد المستثمرون في قطاعات السياحة، وأنا شاهد على ما أقول كثيراً، عندما وجدوا أن عدداً من مشاريعهم يمكن مهاجمتها وإغلاقها، بعد زيارة لداعية أو محتسب متطوع أو عضو في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. هذه الهيئة بالمناسبة، وتحديداً في ذلك الوقت، كانت تتصرف، وكأنها تأتمر لأولئك الرموز. وجود هذه البيئة كانت السبب الرئيس في كون البعض من شبابنا إلى هذا اليوم تواقاً ومتحمساً للانضمام لما يسمونه «الجهاد» في كل مكان. لم لا والحياة تحوّلت أمامه إلى زهد كامل لا قيمة لها، كما يرددون مجرد محطة عبور إلى الجنة. التضييق على الناس والانغلاق هو ألد أعداء التفوق والإبداع، والتنمية في تفرعاتها البشرية والاقتصادية. وجود البطالة اليوم ليس إلا بسبب ضيق الوعاء الوظيفي في المملكة، وسبب هذا هو الانغلاق الاجتماعي المبالغ فيه، والتي ساهمت فيه الصحوة بشكل كبير. إن كنا حقيقة قلقين من مواجهة البطالة، ونخشى أن نفشل في هذا المسعى، فعلينا السعي إلى إزالة هذه البيئة، واستبدالها ببيئة جديدة لا تخضع لتأويلات أو اجتهادات الغلاة و«الأعداء». أعود إلى ما بدأت به وأذكركم مجدداً أن هذا «المواطن» الكاره لوطنه، وسبّب له كل هذا البؤس الاجتماعي، هو نفس المواطن الذي يتلعثم اليوم عندما يأتي الحديث عن الدفاع عن الوطن في النوازل. هو نفسه الذي شكك في صحة التسجيلات والتآمر على البلاد، وقال إن القصة برمتها مفبركة. هو الذي يعشق «أردوغان» ويمتنع عن التصفيق للملك عبدالله بن عبدالعزيز والوقوف للعلم. هو الذي يعارض كل سياسات بلاده الخارجية، ويحرّض العامة على التشكيك في كل خطوة تتخذها قيادات هذه البلاد. لو أردت المزيد من الأمثلة لملأت هذه الصفحة، لكن الجميع اليوم أصبح مدركاً لذلك. هذا التناغم العجيب بين هذه المواقف وبين الحال الذي وصل إليه المجتمع، لا يمكن أن نتركه للصدفة ونصمت. كيف يصفقوا لرئيس دولة ويشيدوا بإنجازاته التي حققها، على حين أنهم ضد وجودها في بلادهم؟! الحقيقة وبلا مبالغة أننا في المملكة أمام مجموعة من الناس ضيقت علينا معاشنا، وقتلت البهجة في نفوسنا، وأسرفت في الإشادة بأعدائنا، وتكره سياسة دولتنا، ولن تذرف دمعة واحدة لو زالت كل المكتسبات التي تحققت بأي سبب. محاربة آثار الصحوة بعد أن تكشفت كل مساوئها، أصبح اليوم فرضاً، وليس ترفاً، ويجب أن لا يظن أحد بأن الهدف من ذلك التشفي منهم أو تكميم أفواههم عن النقد البنّاء. أقول ذلك لأن ظاهر هذه المعارضة مغطى كثيراً بالسعي إلى الإصلاح، كما يفعلونه مراراً عندما يتجمهرون أمام بعض المباني الحكومية. محاربة الصحوة وفكرها ضرورة فقط، لأنه متصل ببناء وطن الغد وتعزيز فرص النمو في اقتصاده وإلحاق أبنائه وبناته في العمل. تفعيل ذلك لا يجب أن يتوقف عند المراقبة الأمنية ومطاردة من يجاهر بالعداء. هذه المواجهة يجب أن تأخذ أبعاداً عدة، أهمها العمل الدؤوب على إعادة الحياة والتسامح والبسمة للناس، وزرع الثقة لدى المستثمرين والتوسع في النشاطات التجارية وأفرعها، وفتح أبواب المملكة للسياحة بمعظم قطاعاتها الجميلة. محاربة الفكر تحتاج إلى خلق ملايين من فرص العمل الجديدة، وقبل كل هذا وجود دولة القانون والسيادة، التي تمنع التجاوزات والاجتهادات الفردية متكئة على قوانين واضحة، وقضاء جدير بالثقة نقيّ من المؤدلجين المتعاطفين مع ذلك الفكر. إن لم نستعجل في الأخذ بمثل هذه الاقتراحات وغيرها الكثير، فسنكتشف قريباً - والله أعلم - حجم الكارثة، وربما لا يسعفنا الوقت لتلافي تداعياتها. اللهم إني بلغت اللهم فاشهد. * كاتب سعودي. F_Deghaither@