النسخة: الورقية - دولي استقالة الأخضر الإبراهيمي كممثل مشترك للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية تضيء إخفاقاً أخلاقياً جماعياً للمنظمتين والدول الأعضاء فيهما وتضيء بالذات على فشل الولايات المتحدة وروسيا في تحمل المسؤوليات، ما أدى إلى إنماء الإرهاب العالمي في سورية بالموازاة مع تعزيز قدرات النظام في دمشق على البطش بالمعارضة المعتدلة والمدنيين. لا أحد بريء من المساهمة في الأخطاء القاتلة في سورية. الإبراهيمي اعترف بأخطائه العديدة في إحاطته الأخيرة أمام مجلس الأمن هذا الأسبوع، لكن مجلس الأمن يبقى رائداً في الإفلاس أمام الأزمة السورية، ما أدى إلى تفاقمها وتحولها إلى أكبر كارثة إنسانية. أكبر أخطاء الإبراهيمي هو رهانه على تفاهم أميركي– روسي، فيما كانت الحكومة الروسية تضلله عمداً وإدارة أوباما تسايره بلا مساندة. ثاني أكبر أخطائه أنه تقبّل كثيراً الدور الإيراني في سورية لدرجة إضفاء الشرعية عليه، فيما كانت إيران تنتهك قراراً لمجلس الأمن يحظر عليها، بموجب الفصل السابع من الميثاق، إيفاد السلاح والضباط ومقاتلي «حزب الله» إلى سورية. وفي الوقت نفسه كانت علاقة الإبراهيمي بالأطراف العربية، سيما السعودية، في تدهور مستمر. ثالث أخطائه أنه تعامل مع المعارضة السورية بامتعاض من تشرذمها بلا تعاطف مع افتقادها الخبرة والتماسك، فيما تعاطى مع الحكومة بحسن الظن، بسبب مركزيتها في مساعي إيجاد الحلول السياسية. لكن الحكومة منذ البداية عقدت العزم على إحباط الفكرة الأساسية في العملية السياسية الانتقالية التي تبناها بيان جنيف– 1 أو مؤتمر جنيف– 2، وهي إنشاء هيئة حكم انتقالي ذات صلاحيات كاملة تحل مكان النظام الحالي. ثم آلت دمشق إلى شن هجوم شنيع ضده لأنه عارض إجراء الانتخابات الرئاسية مطلع حزيران (يونيو) بتقويض متعمّد لفكرة إنشاء هيئة حكم انتقالي. الإبراهيمي وضع أمام مجلس الأمن أفكاراً تشبه خطة من سبع نقاط وودّع مهمته معتذراً للشعب السوري عن الإخفاق، مؤكداً أن لا حل عسكرياً في سورية في نهاية المطاف. سيكون هناك بالتأكيد شخص ثالث يُكلّف بما يسمى المهمة المستحيلة التي لم يتمكن الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي أنان أو الديبلوماسي والمفاوض المخضرم الأخضر الإبراهيمي القيام بها لدرجة النجاح. هذه فرصة ليس فقط لمقاربة جديدة أو لزخم ضروري في التعاطي مع المأساة السورية، إنها نافذة على مطالبة جميع اللاعبين بالكف عن اللهو باعتبارات سطحية أو بموازنات ثنائية على أشلاء السوريين، فالكارثة الإنسانية تهدد أيضاً الأمن والسلم الإقليميين، وهي أيضاً شهادة على فشل ذريع أسفر عن إنماء الإرهاب العالمي الذي سيعود ليرعب كل مَن ساهم في إحيائه ليس فقط في الساحة السورية، في عقر داره. أولاً، لقد تردد أن الأمانة العامة للأمم المتحدة ترغب في أن يكون الممثل أو المبعوث الثالث ممثلاً أو مبعوثاً للأمم المتحدة حصراً وليس مبعوثاً مشتركاً للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية. على الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، ألاّ يرتكب خطأً فادحاً كهذا. إن أي استفراد بالمبعوث الجديد وإزالة الشق العربي من مهامه سيكون إهانة غير مقبولة إطلاقاً، وسيُلام بان كي مون عليها ويواجه حملة انتقاد لاذعة بسببها. السبب الأساسي هو أن الحكومة السورية لطالما أرادت بإصرار إلغاء الشق العربي من مهام أي مبعوث دولي، فإذا لبّى بان كي مون هذه الاستراتيجية السورية بدا بوضوح أنه يرضخ لإملاءات دمشق. السبب الآخر هو أن الأمين العام لجامعة الدول العربية، نبيل العربي، أوضح إلى «الحياة» أنه لم يسمع أبداً من بان كي مون مثل هذه النية وأنه مستمر في العمل معه لإيجاد شخصية دولية مرموقة على مستوى رئيس جمهورية أو رئيس دولة سابق تطبيقاً لرغبة بان كي مون، فإذا أتى بان بقرار مفاجئ يلغي الشق العربي المتمثل في جامعة الدول العربية، فإنه بذلك يوجه صفعة سياسية للدول العربية، وبالذات الدول الخليجية. نبيل العربي قال لـ «الحياة» إن لا إصرار لديه على أن يكون الممثل الثالث غير عربي «ولا يجب أن يكون عربياً بالضرورة». قال إنه يبحث مع بان كي مون بالأسماء، ويوافق على ضرورة أن يكون الشخص شخصية دولية مرموقة. بين الأسماء المطروحة على المستوى الدولي رئيس الحكومة الأسترالية السابق كيفن رود. وبحسب العربي، فإن رود «شخصية دولية محترمة وأنا أعرفه شخصياً وأكن له كل الاحترام ومشاعره طيبة نحو العرب». إنما ذلك ينطبق أيضاً، بحسب رأيه، على الديبلوماسي الإسباني المرموق هافيير سولانا، الذي تريده دمشق مبعوثاً مع أن تقدمه في السن يعمل ضده. وبحسب مصدر موثوق به، فإن الحكومة السورية تجد في سولانا خيارها الأول وتعمل لصالحه. جامعة الدول العربية مُطالبَة الآن بأن تكف عن الاختباء وراء فشل مجلس الأمن والتستر بالأمانة العامة للأمم المتحدة، فإذا أرادت أن يكون المبعوث الجديد مشتركاً، عليها أن تفعل أكثر بكثير مما فعلت، فهي لم تكن ذات مساهمة على الإطلاق في مساندة الأخضر الإبراهيمي. وعليها الآن أن تتحمل المسؤوليات والواجبات المترتبة على المبعوث المشترك، فهذه ليست شهادة فخرية. إنها مسؤولية جدية سيما في زمن ازدياد الكلام عن أدوار إقليمية لحل الأزمة السورية بما يتخطى الدول العربية جمعاء. فهناك كلام عن مقاربة إقليمية دولية –برزت في مؤتمر ميونيخ– تضم الولايات المتحدة وروسيا وإيران وتركيا لمعالجة الأزمة السورية كوسيلة للقفز على المعارضة السعودية لشرعنة الدور الإيراني في سورية. أي تحرك لبان كي مون في اتجاه إلغاء الشق العربي من مهمة المبعوث الجديد سيدخل في خانة تحييد الدور العربي عن الأزمة السورية. هذه ليست مسألة عابرة وإنما هي أساسية في المعادلة الجيو-سياسية. وما يرافق هذا التوجه من ازدياد الاندفاع نحو دور إيراني أساسي ذي أولوية في أي مقاربة لمعالجة الأزمة السورية، إنما يزيد الشكوك والتساؤلات حول ما في ذهن الأمانة العامة والأمين العام للأمم المتحدة. واجب بان كي مون ألاّ يشرّع الدور الإيراني في سورية فيما طهران تنتهك انتهاكاً صارخاً القرار 1727 الذي يحظر عليها التدخل العسكري في سورية. مجلس الأمن يدفن رأسه في الرمال كي لا يواجه ذلك الانتهاك الفاضح لقرار تبناه بموجب الفصل السابع من الميثاق. إنما هذا لا يعني أن على بان كي مون أن يسير في خطوات مجلس الأمن، لأنه هو بدوره مسؤول عن غض النظر الجماعي عن تلك الخروقات التي تسجل سابقة خطيرة جداً على الأمم المتحدة. هذا لا يعني إطلاقاً أن على بان مقاطعة إيران أو إلغاء ضرورة التحادث معها في الشأن السوري، ولكن يجب أن يكون ذلك بشرط ألاّ يقع في فخ إعطائها موقع القيادة في تقرير مستقبل دولة عربية بتهميش للدول العربية الفاعلة، مثل السعودية ومصر. الأخضر الإبراهيمي أبلغ مجلس الأمن بخطة إيرانية من أربع نقاط حول المستقبل السوري، وقال إن طهران كانت مستعدة للعمل على تأجيل الانتخابات الرئاسية لو تبنى مجلس الأمن تلك النقاط: (أ– وقف النار. ب– إنشاء حكومة وحدة وطنية. ج– مراجعة دستورية هدفها تخفيض سلطات الرئاسة. د– انتخابات رئاسية وتشريعية تحت مراقبة الأمم المتحدة). بغض النظر عن حسن هذه النقاط أو سوئها، إن تقديم خطة إيرانية حول مستقبل سورية مع تعهدٍ إيراني بالعمل على تأجيل الانتخابات الرئاسية السورية إذا تبنى مجلس الأمن هذه النقاط، إنما هو تدخل سافر يجب أن يكون مرفوضاً بدلاً من تقديمه إلى مجلس الأمن بلا تشاور مع الدول العربية في شأنه أو إبلاغها إياه. قد يقال إن ايران تقدمت بخطة من أربع نقاط فيما السعودية تكتفي بمعارضة شرعنة الدور الإيراني في سورية ولا تقدم من جهتها خطة بالمقابل. هذا العتب في محله، ولقد آن الأوان لاستبدال الديبلوماسية السعودية نمط الاحتجاج بخطة واضحة وبمقاربة جديدة لحل الأزمة السورية، إنما هذا لا يلغي الخطأ الجذري في عرض خطة إيرانية لمستقبل سورية في مجلس الأمن بلا مشاورات حولها مع الأطراف العربية وبلا إبلاغ فحواها جامعةَ الدول العربية، التي يُفترض ان يكون الممثل الخاص ممثلاً لها أيضاً. الإبراهيمي أشار إلى تصريحات لوزير الخارجية الإيراني جواد ظريف مطلع هذه السنة دعت إلى إخراج جميع المقاتلين غير السوريين من سورية عبر تعاون إيراني مع آخرين. ما لم يذكره الإبراهيمي هو أن ظريف تملّص من استحقاقات هذه الدعوة عندما سُئِلَ في دافوس إن كان مستعداً لتطبيق ذلك على «حزب الله». على أي حال، قال الإبراهيمي إنه سمع عن كلام مماثل من وزير الخارجية السعودي ودعا إلى «تعاون حول هذه المسألة المُتفق عليها، أقله على المستوى الأمني». دعا الإبراهيمي أيضاً إلى وقف تدفق الأسلحة إلى سورية عبر تفاهم إقليمي بتعاون مع بان كي مون «كجزء من اتفاق وليس كشرطٍ مسبق»، وقال إن «الأمين العام سيكون سعيداً أن يقود بنفسه عملية مشاورات مع جميع الأطراف المهتمة» هدفها «وقف تدفق الأسلحة بالموازاة مع إخراج جميع المقاتلين غير السوريين من سورية». هذه مقاربة جديدة تستحق الاهتمام مهما واجهت من صعوبات ومن سوء نوايا لدى جميع المعنيين. على بان كي مون أن يجعل منها مبادرة شخصية وأن يتحرك فوراً للبناء عليها عبر الأخذ على عاتقه التواصل الفوري مع القيادة السعودية ومع القيادة الإيرانية. وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل وجّه دعوة هذا الأسبوع إلى نظيره الإيراني جواد ظريف للتباحث في شتى القضايا العالقة، والمسألة السورية في مقدمها. هذه فرصة لبان كي مون –سوية مع نافذة تعيين مبعوث جديد– للتفكير برؤيوية وبطرق خلاّقة لشق طريقه إلى دور ضروري في صياغة تقارب سعودي– إيراني ضروري وأساسي لمعالجة سياسية للأزمة السورية. المقاربة الإقليمية مهمة بالتأكيد، إنما هذا لا يعفي الأمين العام من مهمة شاقة أخرى قوامها الحزم والإصرار لدى الرئيس الأميركي باراك أوباما والروسي فلاديمير بوتين بأن مواقفهما نحو سورية ألحقت الأذى البالغ بمنظمة الأمم المتحدة، فلقد حان له أن يكف عن القبوع في ظل علاقات الدولتين وعجز مجلس الأمن، حان له أن يقرر أن الكارثة الإنسانية والخروقات الفاضحة للقانون الإنساني الدولي في سورية تتطلب منه الإقدام ليس ببيان هنا أو بموقف هناك، وإنما بمبادرة متماسكة. لدى بان كي مون أدوات القيادة في ملف سورية، وما عليه سوى التحرر من القيود والتقاليد والطموحات الضيقة ليحسن الأداء، فأهم ما سيسفر عنه أداؤه هو إحراج جميع المعنيين في مجلس الأمن، وفي جامعة الدول العربية، وعلى الصعيد الأميركي الروسي، والسعودي الإيراني، والسوري بشقيه الحكومي والمعارض، كي يخرجوا من وهم الاختباء ورء الأصبع، فسورية عار سيلاحق الجميع وسيكلفهم غالياً، الآن أو لاحقاً، مهما حاولوا دفن الرؤوس في الرمال.