×
محافظة المنطقة الشرقية

تصنيف بحث سعودية لعلاج السرطان مرجعاً طبياً عالمياً

صورة الخبر

شكوت إلى كل من لاقيت فتنة القراءة، {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ‏ }[البينة :4]. فما من فتنة هي أشد من القتل إلا هي وليدة قراءة غير راشدة. وإذا كانت القراءة أول ما أمُرِت به الأمة في أول سورة نزلت من السماء، فإن هذا دليل على أهمية القراءة، وخطورتها. وما من ضال إلا هو مصاب بفتنة القراءة غير السوية. الشيء المزعج والمخيف أن يقرأك الآخرون حين لا يصل إليهم خطابك وفق مرادك. وحينئذ لا يتردَّدون في تصنيفك، وتصفية سمعتك، وتجهيز الرد الأْعَنف على ضوء مُدْركاتهم. والحق أنهم فهموا شيئا، وغابت عنهم أشياء. والشاعر المُشْكِلة [أبو الطيب المتنبي]. أدرك القراءات المعوجة لشعرة، وحاول جاهداً ثني المتسرعين. ولما لم يفلح، ندب المسْتَشْكلين إلى [الشيخ الأعور ابن جني] بوصفه الأدرى من المتنبي بشعره، بل اعترف المتنبي بأن [ابن جني] يُقَوَله ما لم يقل. ولكنه تَقْوِيل لصالح النص. وكم من قارئ قَوَّل مقروءة ما لم يقل، وعَرَّضه للمساءلة، والتكذيب، وغرائبية القراءات تضع الكاتب في مواقف محرجة، قد يمسه منها عذاب اليم.وما أكثر العلماء، والأدباء، والمفكرين، الذين جَنَتْ عليهم القراءات الخاطئة، وعرضتهم للإيذاء والتهميش. واليوم بعد ما أصبح المقال السياسي والفكري سيد الموقف، وأصبح الكُتَّاب يلاحقون الأحداث، ويرصدون الوقوعات، ويحللون القضايا، كثرت القراءات الغرائبية. والمتابعون الذين يسارعون في الاتهامات، والتصنيفات يخيفون الكتبة، وقد يُحَملونهم على مزيد من التحفظات، والاحتراسات التي تُقيد حرياتهم. ومع هذا تظل القراءة فتنة، وبخاصة من أولئك المتحزِّبين الذين يضُيِّقون على أنفسهم، وعلى قبيلهم، ولا يجدون حرجاً في لَيِّ أعناق النصوص، والذهاب بها كل مذهب. وهذا الصنف من القراء، لا يبالون بأي واد هلك خصومهم، وما من مُتَعِّصبٍ لمذهب إلا هو سَبَّاق إلي الاتهام، والتجريح، والشتم، والشماتة. ذلك أن تعصبه يلقي في روعه أن كلَّ من لا يدين بمذهبه متمردٌ على الحق، خارج من الملة، حلال الدم والعرض. وقد توحي له نفسه الأمارة بالسوء، أنه بهذا الافتراء يتقرب إلى الله، وأن تَحْطيم مجاديف الآخر من الأعمال الصالحة. ولو امتدت نَظراتنا إلى التراث، لوجدنا صراع المذاهب، والملل، والنحل، يفيض بمثل تلك الجنايات. ولو أن قراءة المتمذهبين اتسمت بالعدل والإنصاف والحيادية، لكان بالإمكان التقريب بين وجهات النظر. فما من مذهب إلا وله قسط من الصوب، وعلية كِفْل من الأخطاء. وإذ يكون بالإمكان التعايش، والانشغال في القواسم المشتركة، فإن العدول عن ذلك جنوح إلى المفصول. وما من مُؤَلَّفٍ، أو مقال اتخذ صاحبه مجال النقد المحكوم بالمذهبية المتعصبة، إلا وتفوحُ منه رائحةُ الكراهية، وحب الانتصار. ولو أن كل الأطراف استهدفوا البحث عن الحق، لخفتت حِدَّةُ النقد، وقَّلت رغبة التجريح والإدانة. المستفيض في كافَّة الحُقُبِ أن المتعصبين لمذاهبهم، وأحزابهم محكومون بمقاصد تلك المذاهب والأحزاب، ومنطلقاتهم مبيتة النوايا. وفي هذه الأجواء المشحونة بالكراهية والأثرة، لو بان لأحدهم وجه الصواب، لازْوَرَّ عنه، ولاذ بالتأويل، وأستنجد بالتحريف، واستعان بالانتحال. والمتابع لهذا الصنف من الكتاب، يقف على مقترفات لا تحتمل. قبل أيام أَهْدَى لي أحد المحبين كتاباً يرد صاحبه على أحد المفكرين الحزبيين الحركيين، وينقض آراءه عقدة عقده. ومع أن هَواي مع هذا الناقد، ومع أن الناقد يمتلك ناصية القول المعرفي، والتأصيل الفقهي، إلا أن سِمة التحامل واضحة. فالحركي الذي أختلف معه أشدَّ الاختلاف، يمتلك مُثَمنات معرفية، وآراءً صائبة، وله حيزه في السياقات الفكرية، وله مكانته المعرفية، والرؤيوية، شئنا أم أبينا. وليس من مقتضيات الاختلاف أن تصادر حق خصمك، ولا أن تجرده من أي فضيلة. وقدوتنا الخليفة الراشد [على ابن أبي طالب] -رضى الله عنه - الذي قال في حق الخوارج الذين قتلوه :- [إخوان لنا بغوا علينا] والإمام [أحمد] الذي سأل طلابه :- من أين أقبلتم ؟. قالوا من مجلس [أبي كريب].وكان يذم أحمد. فقال:- اكتبوا عنه. فقالوا:- إنه يطعن عليك. قال:- وماذا أفعل. شيخ صالح قد بلي بي. وليس من مقتضيات الاختلاف مع الآخر أن يكون ضالعاً في الجهل والحمق والتقول. فكم من مخالف لا يبلغ معارضه مُدَّه ولا نَصِيفه. وكم من مخالف يستفيد من خصمه أكثر من استفادته من الموالين له. وما أكثر الخصوم الذين استفدت منهم، وتتلمذت عليهم، واقتديت ببعض خصالهم، وتمنيت أن يكون لي شيءٌ من معارفهم وقوة حجاجهم. والرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: [اللهم أعز الإسلام بأحب العمرين إليك] وهذا من الاعتراف بحق الخصم. ثم إن الحياة ليس فيها صوابُ محض، ولا خطأ محض، فالصواب دُوْلَةً بين كل المذاهب، والأحزاب، والعلماء، والمفكرين. والخطأ كذلك مشاع بين كل الأطراف. والمسألة تقوم على التغليب، وعلى الفاضل والمفضول. والأقل ما يحكمه الصواب، والخطأ. وعلى ضوء ذلك فإن من الحصافة أن يتخلى المجادل عن جاهزية الأحكام، والنيل من الخصوم، وأن يوجه جهده إلى القضايا المختلف حولها. وأخسر الناس من يملك ناصية الحق، ثم يلهو عنه بالمناكفات التي تحول دون إبلاغ ما لديه من الحق. لقد حرض الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن نُبَلِّغ عنه ولو آية، لا أن نناكف الآخرين، وننازعهم. وقد نهينا عن سب معبودات الآخر، خشية أن يسبوا معبودنا عَدْواً بغير علم. وحاضرنا الفكري والسياسي يفيض بالقول ونقيضه. وما نوده لحاضرنا البراعة في إدارة الاختلاف، وإتاحة الفرصة للوفاق والتعايش، وتمكين كل مفكر من أن يبدي رؤيته. وعلينا أن نعرض ذلك على [الكتاب وصحيح السنة] فما وافقهما، أخذنا به، وقبلناه، وأشعناه، وباركنا لصاحبه موافقته للحق. وما خالفهما التمسنا للمخالف العذر، وتلطفنا في الرد عليه، وأحسنا الظن به. فالمخالف لا يكون بالضرورة مُتَعمداً للمخالفة. لقد التمس الحق، ولكنه لم يهد إليه. وإذ وجدنا أنفسنا مع الحق، فعلينا العض عليه بالنواجذ، ورد الفضل إلى الله، والإفاضة به إلى من حُرم الهداية. وليس من حقنا أن نُدِلَّ، ولا أن نمن، والله يقول: {قُل لَّا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُم * بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} فالمنة لله وحده، وتطاولنا على المخالف غرور، وإعجاب بالذات. إن القراءات الخاطئة تحتاج إلى تَصَرُّفٍ حكيم، لتنبيه الغافلين، ورد المخالفين. ومما لا نوده لمشاهدنا الحِدَّةُ والحَدِّيَّةً، وأحسب أن هذه الخليقة سيدة الموقف. فالعلماء الذين ينطلقون من مذاهبهم، لا ترحب صدورهم لمخالفيهم، ومن ثم يسلبونهم كل حقوقهم، وهذا بعض القراءات الخاطئة. وكم خَسِرَتْ المشاهد مفكرين أشداء، بسبب حِدَّتِهم وحَدِّيَّتِهم. ولربما يكون [ابن حزم] الفيلسوف والأديب والفقيه الظاهري من أبرز النماذج للحِدَّة والحَدِّيَّة، وبدايات شيخنا [أبي عبدالرحمن بن عقيل الظاهري] تكاد تستبطن هذه الخليقة، ولكن سعة اطلاعه، وغزارة علمه، وطول تجاربه، ونفاد عزماته ألان عريكته، ورده إلى الرفق رداً جميلا. والمشاهد العلمية والفكرية مليئة بالعلماء، والأدباء، والمفكرين الأجلاء الذين نختلف معهم، أو نتفق، ولكننا لا نستطيع أن نجادل عنهم، ولا أن نبرر حِدَّتَهم وحَدِّيَّتهم. فأين نحن من [الرَّافعي] و[العقاد] و[عبدالرحمن بدوي] و[زكي مبارك]، ثم أين نحن من [الألباني] و[البوطي] و[بكر عبدالله أبو زيد] و[الغزالي] و[شاكر]. إنهم جميعاً أشداء على خصومهم، رحماء فيما بينهم وبين من يشاطرهم الفكر، مع أن الأطراف كلها لا تعدم الخيرية. - أليس ذلك كله ناتج القراءة المرتابة المتحفزة ؟ لقد قال كلُّ واحد من أولئك في حق خصومه، مالا يقره عقل، ولا يقبله منصف. وإذ نقطع بأن [زيداً] من الناس مخالف للحق في مسائل، فأنه مُتَوفِّر على الحق في مسائل أخرى. ولو كنا منصفين، لأبرزنا مسائل الخلاف، ووقفنا عندها، ولم نوجف على الخصم بالخيل والرجل. إن له حَقَّ الوجود الكريم، وعلينا أن نحسن الظن به، وأن نمتلك سياسة الاحتواء، وصناعه الأصدقاء، ولن يتأتى ذلك إلا بالقراءة المتأنية المتأملة البعيدة عن الإعجاب بالذات، واحتكار الحقيقة. وفي النهاية فكلٌ يؤخذ من قوله، ويرد، ألا من لا ينطق عن الهوى. إن هذا الشعور يربط على القلوب، ويثبت الأقدام، ويشيع القراءات الراشدة التي تَقِينا مصارع السوء.