النسخة: الورقية - دولي يتخيل المؤرخ جون لوكاس (لوكاش)، في عمل تناول الحياة اليومية في القرن العشرين، هواة موسيقى جاز يصغون إلى عزف على البيانو في مقصف بنيويورك في 1929. ثم يشرح كيف وسع هذا الصنف من الموسيقى الراقصة والمتماوجة ذات الحواشي القائمة والجامعة الجاز إلى الأغنية الشعبية، تعريف مناخ نفسي وثقافي عشية الحرب العالمية الثانية. ويجزم لوكاس بأن كل الذين أحبوا هذا الضرب من الموسيقى الأميركية كرهوا النازيين وأبغضوهم. وهذا الرأي رد يغمز من الفيلسوف الألماني المهاجر إلى الولايات المتحدة هرباً من النازية، ومن زعمه أن أنغام الجاز الألماني «رتيبة»، وأن غوايتها الإيقاعية قد تكون صدى لتواطؤ مع الفاشية. ولا شك في أن هذه الموسيقى الراقصة، ومقطوعاتها القصيرة التي كانت تسمع على أسطوانات 87 دورة في الدقيقة، ويكن هواتها تعلقاً قوياً بمعايير إنسانية عامة، موضوع تساؤل محير. ويغذي هذا التساؤل سيرة جديدة وتفصيلية خص بها تيري تيشوت ديوك إلينغتون، وأَوْلى اهتمامه فيها سرَّ موسيقى الـ «ديوك» مقدار إيلائه نوطاته وألحانه الاهتمام. فالرجل الذي رعى فرق عازفي مرابع راقصة كان موسيقياً متوسطاً. وبقي سنين طويلة قابعاً في نوع «الجنغيل» (الذي يغلب عليه مزيج الآلات النحاسية الحادة بالأنغام الناعمة الصادرة عن آلات النفخ ولسانها الطري). وهو لم يؤلف، في ذروة تألقه، غير أسطوانات قصيرة تقتصر على ترددات معدنية. وأفضلها سجله في ليلة برد قارس، في شتاء 1940، بصالة رقص في فارغو، من بلدات ولاية داكوتا الشمالية. فكيف قُدِّر لهذا العازف أن يصبح وجهاً متصدراً، وعلماً من أعلام الموسيقى الحديثة، وتجسيداً لصورة الفن في نظر جمهور عريض من الناس؟ الجواب التقليدي عن السؤال هو القول: كان ديوك إلينغتون مؤلفاً موسيقياً كبيراً على المثال الأوروبي، يكتب المقطوعات، ويوزعها على الآلات توزيعاً دقيقاً، ويقف حياته على عمله وتأليفه. والحق يقال أن فحص الأمور من قرب لا يؤيد هذه الإجابة. فأفضل موسيقى إلينغتون هي ثمرة ارتجال فريق من العازفين المتذمرين والعنيدين المثابرين، وجمعت بعد أدائها، وهذبت أجزاؤها وثبتت في مقطوعات ذاعت في الجمهور. وربما يقتضي تعليل هذا النظر من جديد في معايير الابتكار والتجديد، والتفكير فيها ملياً. وكتاب تيشوت في موسيقار الجاز هو الثاني من صنفه. وسبقه عمل أول موسوم بـ «بوبس»، تناول فيه الكاتب، الناقد الفني في «وول ستريت جورنل» والمعلق في «كومنتيري» و «ناشنل ريفيو» و «نيويورك تايمس»، لويس أرمسترونغ، واستخرج منه عملاً مسرحياً ممتازاً وسمه بـ «ساتشمو في والدورف». وتيري تيشوت، المحافظ، مهد لكتاباته في موسيقيي الجاز السود بتقصي أحوال العلاقات بين الأعراق في الولايات المتحدة، وسبر الكراهية العميقة التي لابستها وقتاً طويلاً وغلبت عليها. وأرمسترونغ موضوع مطواع ولا صعوبة أو عسر في تناوله. وهو لم يكن موسيقياً وعازفاً عبقرياً فحسب، بل كان إنساناً لا يقاوم سحره «الحيواني». وتهمته بالرخص وبيع نفسه من شركات الأسطوانات متهافتة. فعيبه هو تسجيله شطراً كبيراً من أفضل أسطوانات البوب في الأزمنة كلها بعد أن سجل بعض أفضل أسطوانات الجاز. ولم يتستر أرمسترونغ على أثر جو أوليفر وبادي بولدن في موسيقاه. إلا أن «دمغة أرمسترونغ الإيقاعية» كانت جلية منذ ألحانه الأولى. وهذا يشبه حال إلفيس بريسلي، ولكن على مستوى فني أرفع بما لا يقاس، وفي الحالين بلغ الرجلان التمام والغاية من غير تدرج ولا تلكؤ. وأما إلينغتون فإقلاعه بطيء. وأغانيه الأولى والذائعة تبدو اليوم بائتة ومصطنعة. وهو ابن والدين من واشنطن، احترفا الخدمة المنزلية وأورثا ابنهما ذوقاً في اللباس والأناقة شديد التطلب. وغلب عليه تكلف مدروس شارك فيه عدداً كبيراً من الشخصيات الأفريقية – الأميركية المعاصرة والمشهورة. فكان «دوقاً»، مصدر تلقيبه بـ «ديوك» على نحو ما كان أحد الدعاة الأميركيين السود يلقب بـ «الأب». وعلى خلاف أرمسترونغ، سعى ديوك في بلوغ مثال موسيقي عال قبل أن يكتب أو يؤلف شيئاً من موسيقاه. وفي مقطوعاته الأولى، ترجح بين تأتأة ولعثمة «بدائيتين» وبين أنغام انطباعية رخوة على شاكلة «كريول لاف كول» (الخلاسي ونداء العشق). ومثاله الذي ألهمه ألحانه حمله على نشدان المغامرة الإيقاعية من غير خشية الإفراط «الأفريقي»، وعلى طلب التزويق الغنائي والهشاشة الانفعالية المتعمدة من غير خجل. وقضى إلينغتون 50 سنة سعى في أثنائها في تجسيد هذا المثال. وقبل أن ينصرف إلينغتون إلى محاكاة نفسه، كان الموسيقي الذي يحبه الناس الذين لا يستهويهم الجاز. وهو كان على يقين من أن ما تحتاجه موسيقاه هو «نبرة» وليس أسلوباً أو نبضاً، على ما لاحظ بالييت. وتعاقد غالباً في فرقته مع عازفين من غير أهل المدن، معظمهم قدم من نيوأورلينز، وتقتصر ميزتهم أو موهبتهم على إخراج أنين مخنوق وخافت جعله صاحب الفرقة اختصاصاً منزلياً، ودربهم على إخراجه. وحرص سنة بعد سنة، على إبقاء عازفيه في فرقته. ونجح، في 1940، في جمع فرقة كل عازفيها من النجوم، يعزفون معاً، ويتقدم العازف منهم زملاءه مرتجلاً ثم يعود إلى الفرقة واحداً من غير ظهور المنافسة على أفراد الفرقة. وهذا إنجاز فريد. فلم تصبهم الرتابة التي غالباً ما تصيب فرق العازفين البيض. وخمسة من العازفين - جيمي بلانتون على الباس، وبن ويبستر على الساكسوفون تينور، وجوني هودجز على الساكسوفون ألتو، وهاري كارَني على الساكسوفون باريتون، وتريك سام نانتون على الترومبون - يعدون من نخبة العازفين على آلاتهم في كل الأزمنة. ولا تفارق السيرة وصفحاتها خيبة مواربة. فإلينغتون كان رجلاً أنيقاً، لكنه لم يكن لطيفاً ولا مهذباً. والموسيقيون الذين جمعهم حوله لم يتورع عن استغلالهم وعن استعمالهم في بلوغ أغراض من غير تردد ولا حرج، شأن النساء، من ناحية أخرى. ويبرهن تيشوت على أن إلينغتون نادراً ما كان المؤلف الوحيد للموسيقى التي تنسب إليه اليوم وحده. فمعظم مقطوعاته الذائعة الصيت كانت ثمرة تعاون مع موسيقيين آخرين من الفرقة. ولم يحرص قائد الفرقة على الدوام على الإقرار لشركائه بحقوقهم المعنوية وبالعوائد المترتبة على الشراكة. والهواة المولعون بالجاز يعلمون، منذ زمن، أن أبوة شطر راجح من ألحان «إلينغتون» يشاركه فيها الموزع بيلي سترايهورن، وعلى وجه الخصوص، «تايْك ذا تراين» (خذ القطار) «وشيليسا بريدج (جسر شيلسيا)، أو عازف الترومبون خوان تيزول الذي كتب معظم «كارافان» (قافلة). ولا يقتصر الأمر على هذا. فـ «مود أنديغو» (مزاج نيلي اللون أي داكن مثل لون نبتة النيلة) هي من صنع بارني بيغارد، و «نيفير لامنت» (لا تنتحب أبداً)، و «أيَم بيغينينغ تو سي ذا لايت» (أنا آخذ لتوي في رؤية الضوء) و «آي لِت أي سونغ آوت أوف ماي هارت» (أنا تارك الأغنية تخرج من قلبي) هي من صنع جوني هودجز. وسبق ساكسوفون ألتو العازف أوتو هاردويك ديوك إلى عزف «سوفيستيكايتيد ليدي» (السيدة الرقيقة والبالغة التأنق) و«بريلود تو أي كيس» (مقدمة القبلة) و «إن أي سِنْتيمنتل مود» (حال عاطفية)، وقلما تنسب إلى صاحبها. وهذه المقطوعات ليست ألحاناً في متناول صنعة مبتدئ، ولا سلسلة جمل من البلوز المهجأ. فهي نتاج أفكار نغمية غنية، ولا تقل تركيباً وتعقيداً عن موسيقى غير شوين، واستملكها إلينغتون وهي في رأسه، وليس من بنات أصابعه. ويشرح تيشوت شرحاً دقيقاً ووافياً كيف كانت هذه الأغنيات وألحانها تبددت من غير أن تخلف أثراً لو لم يقيض لها سمع إلينغتون وذكاؤه، وإعماله أذنه وفطنته في توزيعها وتنضيدها. وعلى رغم هذا، يشبه صنيع إلينغتون الانتحال والسرقة. ولم يحلُ الأمر للعازفين الموسيقيين. فكان هودجز يحاكي حركات من يحصي نقوده حين يؤدي إلينغتون بعض ألحانه هو. ولكن انتحال إلينغتون موسيقى عازفيه أنقذها من الاضمحلال، وجدد رواءها وبناءها. وطيلة عمره، عمل إلينغتون على هدى صورة في ذهنه عن الجاز. فهو مال إلى صنف منه يغلب الوقع والمناخ، ويتحدر من البلوز شرط التحلي بالأناقة. وانتخب من أعمال العازفين وعزفهم ما يناسب هذه الصورة ويماشيها. والألحان قد يكون مصدرها أعضاء فرقته، ولكن الموسيقى، أي بوتقة الألحان، كانت منه. وهذا ليس أصالة من درجة ثانية، بل هو أصالة أصيلة. وشكوى أعضاء الفرقة دارت على العائد المالي. واحتج ديوك إلينغتون لنفسه، ولحصته الراجحة من العائد، بالجهد وليس بالإلهام. ولم ينكر موسيقيو الفرقة على قائدها «سطوة» على أفكارهم وابتكاراتهم، بل أنكروا إجحافه في توزيع العوائد عليهم. وفضل إلينغتون على فريق العازفين هو رعايته تماسكه (الفريق) نصف قرن من الزمن وقيادته العازفين، وصبغه موسيقاهم وأداءهم بصبغة مميزة وفريدة في تاريخ الموسيقى الأميركية. وتناول «الديوك» على هذا النحو الذي يحتسب عمله وجهده وقيادته، ولا يكتفي بالقول إنه كان موسيقياً كبيراً ومؤلفاً عظيماً، قرينة على أن الوصف المناسب لمن هم مثله لا تمليه الموسيقى وحدها ولا توجبه. فجزء من الوصف ينبغي أن يعود إلى الجمهور، وإلى المتذوقين والنقاد والهواة. وكان وليام شو، رئيس تحرير «نيويوركر» السابق، قارن إلينغتون بالبيتلز، أو قارن هؤلاء به، وشاعت المقارنة. وتشير المقارنة إلى سمة من سمات عبقرية الإبداع المعاصر: فكيف تسنى للبيتلز، وهم من غير تأهيل موسيقي، وفريقهم دام 6 أعوام بين أسطوانتهم الأولى المشتركة وأسطوانتهم الأخيرة، إنجاز ما أنجزوه؟ ويتناول المسألة هذه مارك ليوسون في الجزء الأول من كتاب يروي سيرة الفريق منذ 1962. ومدار الرواية على مزيج الجاذب الحيوي (الحيواني) والعبقرية الموسيقية الذي هز سكان ليفربول قبل أن يسري في معظم مدن الكوكب. وقد يعود تعليل الأمر بإحصاء ما كان البيتلز يتقنون صنعه ومزاولته وهو التوزيع، والعزف على الغيتار، والظهور الجميل، والقريحة غير المفتعلة، وكتابة الأنغام الرائعة في أسلوب مجدد، إلخ. وهم كانوا اثنين، و «روحين» متكاملين، قبل أن يكونوا ثلاثة ثم أربعة. فبول مكارتني كان يملك موهبة مدهشة وغريبة. أما النضوج الانفعالي والشعوري، فكان عطاء جون لينون. * كاتب وناقد، عن «نيويوركر» الأميركية، 23/12/2013، إعداد منال نحاس