من أجمل ما قرأت قبل أيام كتاب (بناء الإنسان وتنمية المكان) الذي أهدي لي في معرض الرياض الأخير، لأن فيه ذكريات لبعض أسرار وأفكار ابن ملك وحفيد ملك وأمير وشاعر ورسام، وفيه تكتشف صورة إنسان حازم وبصمة إداري صارم يرسم في كتابه هذا خارطة طريق للمسؤول الناجح. ولن أكون مبالغا إذا قلت إن فيه رسائل خشنة موجهة إلى أولئك الذين يتشبثون بكراسيهم الوثيرة خلف الأبواب المغلقة. الكاتب هو الأمير خالد الفيصل يقول في مقدمته: الكتاب ليس سيرة ذاتية ولا تقريراً إنها تجربة إنسانية تنموية إدارية لم أسع لها ولم أتهرب من مسؤوليتها فصارت. ثم يتحدث في مقدمة كتابه بنبرة حزينة وهو يودع معشوقته أبها بعد عمل سبعة وثلاثين عاماً وماقدمه من أجلها وما ضحى به في سبيلها، متذكراً المعاناة والمواقف الصعبة من أجل مشاريعها، وكيف اكتوى بنار كثير من التحديات في سبيل تحقيق تلك المنجزات التي عدها فيها من الأولويات، لولا أنه كان يؤمن بأن وراء كل عمل ناجح ينجزه لذة لا يدركها إلا الناجحون. لقد أعطاني في ذلك الكتاب الذي تفوح منه رائحة الوطنية جرعات كبيرة من الحماس فلم أتركه حتى أنهيته، لأنني أرى تتابع بوابات الإنجاز التي يرسمها تشعرني بحماس مواطن يهمه مصلحة وطنه، كما هي تشعر أي قارئ بأنه أمام مسؤول يختصر لك كل محفزات الإبداع المتتالية، وفي النصف الآخر من الكتاب يتحدث عن تجربته في إمارة مكة المكرمة، وشتان ما بين وداع أبها التي قضى فيها زهرة شبابه وما بين استقبال مكة التي شهدت مسقط رأسه. وما بين الرحلتين لفت نظره كما يقول ذلك التشاؤم الكبير في كثير من الكتابات الصحفية عن كثير من المشكلات التي تنتظره، وهو يدرك بخبرة المتمرس والمتابع بأن مشكلات مكة تختلف عنها في عسير، وماصلح هناك لا يعني بالضرورة أن يصلح هنا، وهذه هي رؤية القيادي الناجح الذي لا يتحدث إلا بصدق ولا يعمل إلا بحق تصدقه الأدلة وتؤكده الحقيقة، وما تسمعه منه لا يخالف الواقع وهذا لا يتأتى إلا إذا كان الجهاز الإداري ديناميكيا في عمليات التوازن المختلفة، وقابلا لاستيعاب الوسائل الحديثة. وهو ما بدأ بفعله من خطوات في إمارة مكة بعدما قام بالتعرف على أقسام إدارته أولاً ثم الاطلاع على مناطق مسؤولياته بنفسه وذلك عن طريق زياراته السنوية المتتابعة والبعيدة عن مظاهرالترف أو الدعاية والخالية من الاحتفالات الشكلية كحضور الولائم والمناسبات والمهرجانات كما يفعل آخرون. ورغم تقدمه في السن -أطال الله عمره- فقد أتعب من معه كما يقولون، فكل يومه لقاءات علمية وعملية واجتماعية ومكتبية تشاركه بعض الجهات الرسمية والأهلية، وهو لا يتابع إلا المشاريع ولا يسأل إلا عن المنجزات لأن النجاح في عرفه لا يقاس إلا بقدر الصعاب التي تغلب عليها. إن المتابعة الميدانية المفاجئة من أهم أسرار نجاح المسؤول والمدير الناجح ليس كنبات الظل أو سمك الزينة لا يسمع أحداً ولا يقبل نقدا بل عليه أن يدرك أن بيئة العمل الحكومي ليست مفروشة بالورد وليست أيضا معبدة بالألغام، كما أن المواطن المثقف اليوم لن يقف موقف المتفرج ولن يلعب دور المصفق، وقد قيل من لا يعمل لا يخطئ والكمال لمن له الكمال لقد كانت لدي فكرة تختلف، إلا أن كتاب «بناء الإنسان وتنمية المكان» فيه أفكار وأحلام حولها (دايم السيف) إلى واقع فيه تجارب ودروس للإفادة.