خالد الدخيل مهما اختلفت زاوية النظر فالمشهد في العالم العربي بعد الربيع بات معروفاً للجميع. زاوية النظر إلى المشهد تفسير له قابل للاختلاف، لكن عناصر المشهد ملاحظات أو حقائق ينبغي ألا يكون خلاف حولها. لا يمكن الإلمام هنا بكل العناصر، لكن ثلاثاً منها تتقدم على غيرها: انقسامات عربية حادة على كل المستويات تقريباً. واندفاعة إيرانية بدأت مع الاجتياح الأميركي للعراق في 2003، وتضاعفت مع الثورة السورية. والعنصر الثالث موقف متردد بعضهم يسميه تخاذل أفرز سياسة أميركية رمادية قلقة من حجم الانقسامات العربية، وتميل إلى تحاشي الصدام مع إيران. من بين هذه العناصر الثلاثة تفرض الانقسامات العربية نفسها، باعتبارها الأهم في تقرير الوجهة التي سيأخذها الوضع الإقليمي. وهي كذلك، لأنها المظهر الذي يبدو على السطح معبّراً في العمق عن أزمة حكم مزمنة. هي ليست حالاً جديدة، لكنها لافتة بحجمها ومداها وقدرتها على المقاومة، وحدتها في مثل الظروف الحالية. داخل الانقسام الرئيس الذي فرضه الربيع العربي بين النظام الحاكم وتيار الثورة بدأت الانقسامات الفرعية تفعل فعلها على المستويين الأفقي والعمودي داخل دول الربيع، وفي الدول التي لم يصل إليها الربيع. في مصر أخذ الانقسام شكل صدام حاد ومباشر بين «الإخوان» والجيش، تفرعت عنه انقسامات أخرى. واللافت انقسام الإسلام السياسي نفسه: الإخوان والسلف، والسلفية الجهادية مع السلفية التقليدية. قبل ذلك وبعده هناك الحرب الأهلية التي تدور رحاها في العراق، ثم الحرب الأهلية في سورية التي دخلت عامها الرابع. هذه حروب دينية تعبّر عن انقسامات طائفية مريرة، والمدهش أن المعارضة السورية بقواها الدينية والمدنية وهي تواجه نظاماً تميز بعنفه ودمويته منقسمة أشد ما يكون الانقسام، بل وصل الانقسام إلى داخل تنظيم القاعدة نفسه، وإلى حد الاقتتال بين تنظيمي جبهة النصرة، والدولة الإسلامية في العراق وسورية (داعش) في سورية. يقال إن «داعش» في أحسن الأحوال مخترق من مخابرات النظام السوري، وفي أسوئها أنه عميل سري لهذا النظام. القوى السياسية في اليمن منقسمة، تستطيع هذه القوى تحقيق شيء من التوافق على محاربة «القاعدة» في جزيرة العرب، لكنها لا تستطيع التوافق على مخرج سياسي للأزمة السياسية التي تعصف باليمن منذ تنحي الرئيس علي عبدالله صالح، ولا على مواجهة تنظيم الحوثيين في الشمال، وهو لا يقل خطورة عن «القاعدة». القوى اليمنية في جنوب اليمن أيضاً في حال انقسام لا يبدو أن لها مخرجاً. في ليبيا يتجه الوضع إلى نوع من الفوضى السياسية، وغياب القدرة على فرض سلطة مركزية بعد انهيار النظام. على المستوى العربي، هناك الصدام الحاد بين مصر وقطر على خلفية الإطاحة بـ «الإخوان»، وسحب ثلاث دول خليجية لسفرائها من قطر، ما يؤشر بدوره إلى حال انقسام خليجي. والمذهل ما تسرب أخيراً عن تآمر عضو مؤسس في مجلس التعاون الخليجي (قطر) ضد عضو مؤسس آخر (السعودية). لا تتوقف حال الانقسام عند هذا الحد. فهناك خلاف معلن بين تركيا ومصر، وخلاف أقل حدة وغير معلن بين السعودية وتركيا، والخلاف في الحالين متصل أيضاً باختلاف في الموقف من جماعة الإخوان المسلمين في مصر والمنطقة ككل. الدول العربية ككل منقسمة في ما بينها إزاء قضايا المنطقة، حول الوضع في سورية، والوضع في مصر. كما أنها منقسمة حول الموقف من إيران ونفوذها المتمدد في العراق وسورية ولبنان. في موازاة ذلك وعلى المستوى الثقافي، برز خطاب ثقافي إعلامي يعبّر عن ظاهرة الانقسامات هذه بلغة تتميز بدرجة عالية بالحدة والقسوة، والبذاءة أحياناً. انتظم الإعلام ومعه كثير من السياسيين وغالبية كتاب الرأي، بخاصة في مصر، في حال الانقسام بمرارة واضحة، كل طرف يتمترس خلف موقفه، ووصل الأمر من الانحدار أن أصواتاً قليلة تجرأت على رفض ثقافة كراهية، ومكارثية تستشري في الإعلام المصري. تسببت هذه الأجواء بفقدان القدرة على إيجاد مسافة من الحدث، وبالتالي غياب، إلا في ما ندر، التحليل الموضوعي لما يحدث. مصر والمنطقة في مثل هذه الظروف في أمسّ الحاجة إلى التحليل والرأي، وليس إلى الصراخ والتشنج العاطفي واللغة السياسية البذيئة. كان ولا يزال الانقسام يتمحور حول من هو مع الإسلام السياسي، ممثلاً بشكل رئيس، وليس حصرياً بـ «الإخوان»، ومن هو ضد الإسلام السياسي. وأغرب ما في هذا السجال أن التيار الذي يناهض الإسلام السياسي انطلاقاً من كون الأخير منغلق وإقصائي، عبّر عن موقفه هو الآخر بإقصاء لا يقل حدة وفجاجة، ومن ثم دخل الجميع حدود الدائرة المغلقة، ما يشير إلى أن الإقصاء موقف ثقافي راسخ في الثقافة السياسية العربية، يعبّر عنه الإسلام السياسي بلغة ومبررات دينية عنيفة، ويعبّر عنه التيار المدني بلغة ومبررات ليبرالية مدعاة، أو قومية سطحية وفجة. الانقسامات السياسية الحادة، والخطاب الثقافي المعبر عنها، يعبران عن حال الانسداد التي وصل إليها الوضع في كل دول الربيع، ربما أن الاستثناء من ذلك هو المثال التونسي الذي اتسع حتى الآن لحوار أكثر نضجاً ورشداً بين القوى السياسية، بل لتحالف بين العلمانيين والإسلاميين هناك، ما يعد بتجنب تونس مأزق الانسداد، وأهم من ذلك جنبها الانزلاق إلى حال الاحتراب الدموي، كما في سورية. إذا نظرنا إلى هذا الوضع في إطار صراع إقليمي مستجد على المنطقة تفرضه إيران بطموحات قومية وغطاء طائفي، فإن الانقسام العربي وما يترتب عليه من حالات اختناق وانسداد يغري الإيرانييـن بمزيـد من الاندفاع لتوسيع وتثبيت ما تحقـق لهم من نفـوذ في العراق والشام، وإذا نظرنا إلى الوضع نفسه من الزاوية الدولية، فإن حال الانقسام تزيد من تردد إدارة أوباما التي تتبنى أصلاً سياسة انكفائيـة نحـو الداخـل، بل إن ظاهـرة الانقسام تعزز من قناعة هذه الإدارة بضرورة التفاهم مع إيران. أغرب ما في هذا المشهد أن نتيجته التي انتهى إليها حتى الآن تشبه كثيراً النتيجة التي انتهت إليها أول انتفاضة شعبية عرفها العرب المسلمون، التي بدأت بمقتل الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه -، وانتهت بما يعرف في الأدبيات الإسلامية بالفتنة الكبرى، أي حال انقسام سياسي حادة، وما رافقها من انقسام ثقافي ديني، ثم حرب أهلية مريرة. يفصل بين المشهدين أكثر من 1400 عام. هل يعقل أن يكرر التاريخ نفسه بشكل تراجيدي بعد كل هذه المسافة الزمنية؟ قبل أكثر من نصف قرن انكسر العرب في زمن حركات التحرر الوطني أمام إسرائيل أيام كانت الآيديولوجيات العلمانية تهيمن على الفضاء السياسي، وهم ينكسرون الآن في زمن الربيع العربي أثناء وبعد تراجع سطوة الإسلام السياسي وفشله. لا العلمانية أنقذت العرب، ولا آيديولوجيا الإسلام السياسي. في الماضي القريب كانت الشكوى من انحراف وعوار الاشتراكية والشيوعية والقومية، الآن باتت الشكوى من انحراف وخطورة الإسلام السياسي، وتحديداً «الإخوان». لم يتجاوز الأمر في الحالين حدود الشكوى والهجاء إلى على الأقل إتاحة مساحة لاجتراح منظومة فكرية وسياسية تقدم المناسب والأنجع، وهذا يعبّر عن مأزق حكم يعيد إنتاج نفسه من مرحلة تاريخية الى أخرى. الحياة