النسخة: الورقية - دولي دعتني عميدة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة الدكتورة هالة السعيد لكي أحضر ندوة اقتصادية سيعرض فيها كبير الاقتصاديين بالبنك الدولي وهو إيطالي اسمه باولو فيرمي التقرير الذي أعده البنك وعنوانه «داخل عدم المساواة في جمهورية مصر العربية: الحقائق والمدركات» وقد شاركته في تحرير هذا التقرير مجموعة باحثين أجانب ومصريين. ونظمت الندوة على أساس أن يتولى التعقيب على محرر التقرير أستاذان هما أستاذ الاقتصاد الدكتور جودة عبدالخالق، وأستاذ العلوم السياسية الدكتور مصطفي كامل السيد. وحضرت الندوة مجموعة من كبار أساتذة الاقتصاد المرموقين. كانت الندوة مثيرة حقاً وزاخرة بالتحليل النقدي العنيف للتقرير. وجزء من هذا النقد مرده إلى أن البنك الدولي سيئ السمعة في دوائر المثقفين المصريين، لأن مديريه يتبنون توجهات «الليبرالية الجديدة» التي تسعى إلى تصفية القطاع العام وتدعو إلى فتح السوق بلا أية قيود ولا أي تدخل من جانب الدولة، على أساس مزاعم الرأسمالية المعولمة التي ورثتها منذ نشأة النظام الرأسمالي والتي تتمثل في أن السوق تستطيع أن توازن نفسها وليس مرغوباً على وجه الإطلاق تدخل الدولة، سواء لمنع الاحتكار، أو لضبط الأسعار. وهي مزاعم سبق للمفكر الاقتصادي الكبير كارل بولاني أن فندها في كتابه الشهير «التحول العظيم»، حين حذر من سيطرة السوق على الدولة أو على المجتمع. وقد رفضت وصاياه إلى أن وقعت الواقعة وسقط اقتصاد الولايات المتحدة الأميركية الهائل في بئر الأزمة الاقتصادية الحادة، ما أجبر الرئيس أوباما – خلافاً لقواعد الرأسمالية المقدسة – على أن يضخ أكثر من خمسة تريليونات دولار لإنقاذ البنوك الكبرى والشركات العملاقة من الانهيار الكامل. غير أن سمعة البنك الدولي السيئة خصوصاً في مناصرته أنظمة الحكم العربية السلطوية لم تكن السبب الوحيد للنقد الحاد الذي وجهه المعلقان على التقرير، إضافة إلى عدد من المشاركين في الندوة، ولكن السبب الرئيسي يكمن في تهافت المنهج الذي طبقه التقرير والذي أدى بمحرريه إلى أن يزعموا أن هناك لغزاً يستحق أن نفكر في حله، وهو التناقض البين بين المؤشرات الاقتصادية الثابتة والصحيحة، والتي تؤكد أن الاقتصاد المصري في السنوات الأخيرة من عهد الرئيس السابق مبارك كان مزدهراً، لأن معدل نمو الدخل القومي وصل إلى 7 في المئة، إلا أن إدراكات الجماهير كما قاسها «المسح العالمي للقيم» الذي استطلع آراء عينات ممثلة من المصريين ذهبت إلى العكس، بمعنى إحساس الناس أن حالتهم المعيشية تدهورت بشدة بحكم التضخم والارتفاع المستمر في الأسعار، هذا بالنسبة إلى متوسطي الحال، أما الفقراء فإحساسهم أنهم ازدادوا فقراً! ويقول المحرر الرئيسي للتقرير في عرضه إنهم دققوا في البيانات المصرية وتأكدوا أنها بالغة الدقة بالمعايير الدولية، فلماذا إذاً تميل غالبية الجماهير إلى أن أحوالهم بائسة؟ ودارت المناقشات النقدية للكشف عن الخلل المنهجي في عقيدة البنك الدولي الاقتصادية والتي تتمثل في الزعم بأن ارتفاع معدل الدخل القومي في ذاته سيجعل ثمار التنمية تتساقط على كل الطبقات، بالتالي يرتفع مستوى جودة الحياة بالنسبة لهم. وهذا وهم باطل في الواقع، لأن السنوات الأخيرة من حكم «مبارك» شهدت تزاوجاً معيباً بين السلطة والثروة، تمثل في استيزار مجموعة من رجال الأعمال وأصحاب الشركات، ما خلق حالة من صراع المصالح. فكيف يمكن صاحب شركة سياحية أن يكون موضوعياً حين يصبح وزيراً للسياحة؟ وكيف يمكن صاحب شركة مقاولات، أو رئيس مكتب هندسي استشاري أن يكون وزيراً للإسكان ويمارس عمله بنزاهة وشفافية؟ وأخطر من ذلك كله أن مجموعة من رجال السلطة ورجال الأعمال الفاسدين سيطرت على البورصة وتلاعبت بالأسعار وربحت مئات الملايين من الجنيهات، إضافة إلى نهب أراضي الدولة والتي أعطتها إلاها للاستصلاح الزراعي بقيمة 500 جنيه للفدان، ثم حولتها إلى أرض مبانٍ ومنتجعات وباعت الفدان الواحد بأربعة ملايين جنيه! هكذا، وجهت انتقادات حادة إلى التقرير على أساس أنه اعتمد على مسوح موازاننة الأسرة، وزعم أن «معدلات الإنفاق» يمكن أن تكون مؤشراً إلى جودة الأحوال الاقتصادية للأسر. ولكنه في الواقع تجاهل دراسة البطالة السائدة، خصوصاً بين الشباب، وتجاهل دراسة الفساد بكل أنواعه، وتجاهل دراسة التناقضات الرهيبة بين «المنتجعات» الفاخرة و «العشوائيات» البائسة التي لا تليق بالآدميين. وأخطر من ذلك كله – منهجياً - أنه زعم أن «البيانات» التي جمعتها البحوث المختلفة هي «حقائق»، وغاب عنه أن البيانات لا بد لها أولاً من أن تكون «ثابتة» و «صادقة» وأهم من ذلك كله أن تكون «شاملة» بمعنى أن تقيس مختلف مفردات الظاهرة المبحوثة، ولا تكتفي بجانب واحد وندعي أنها غطت كل الجوانب. والواقع أن منظر الاقتصادي الإيطالي «باولو فيرمي» الذي عرض تقرير البنك الدولي كان بائساً وهي يدعي أنه حائر في حل اللغز، وهو التناقض بين البيانات العلمية وإدراكات الجماهير! ولم يعرف الرجل - أو بالأحرى تجاهل – أنه في مواجهة غباء الأنظمة السياسية الحاكمة، سواء كانت في تونس أو مصر أو ليبيا هناك ذكاء الشعوب المرهف الذي جعلها تدرك إدراكاً صحيحاً - بغض النظر عن الدعايات الكاذبة سواء للأنظمة أو البنك الدولي - أن أحوالها الاقتصادية قد ساءت وتدهورت تدهوراً خطيراً. وقد وثق هذه الحقائق مرجع بالغ الأهمية حرره كل من الباحث التونسي حبيب عائب وراي بوتن وعنوانه «التهميش والمهمشون في مصر والشرق الأوسط». وقد أوردت مقدمة الكتاب نقداً عنيفاً للتفسيرات التي قدمتها الدوائر الغربية للثورات العربية في كل من تونس ومصر، والتي ركزت على أنها كانت من صنع الشباب الذين أتقنوا عملية الحشد والتشييك باستخدام الفايسبوك والإنترنت، متجاهلة في ذلك النضال الطبقي للعمال والفلاحين ضد السلطات القمعية الغاشمة. تقول المقدمة «كان هناك رفض عام لفهم التحولات التي حدثت في مصر وتونس كتجليات لمقاومة الثروة والسلطة. كانت المقاومة دائماً قائمة على أساس طبقي من النقابات العمالية وجمعيات الفلاحين والنشاطات المستقلة للعمال والفلاحين لمواجهة الاقتصاد السياسي الذي شجع «السلب والإفقار». وبدلاً من أن يضيع البنك الدولي وقته ووقت خبرائه وقراء تقاريره الفاسدة في محاولة الإجابة على «ألغاز» ساذجة، كان عليه أن يستمع بدقة إلى هوية الجماهير الغاضبة التي أشعلت ثورات الربيع العربي، والتي قامت في مواجهة الغباء السياسي للأنظمة العربية التي ظنت وهماً أنها يمكن أن ينهب قادتها ثروات الشعوب إلى ما لا نهاية، وبغير مقاومة شعبية جسورة! لقد سقطت الأنظمة السياسية المستغلة وانتصرت إرادة الشعوب! * كاتب مصري