النسخة: الورقية - دولي لم يتخلص المغاربيون من سياسة البحث عن الأعذار. ولن يزيد اجتماع وزراء خارجيتهم في الرباط عن التمسك بالحد الأدنى من أدبيات الانتساب المغاربي. فيما الواقع يعكس نفوراً كبيراً تجاه الفكرة وآليات تنفيذها. ولولا أن شركاءهم في الضفة الشمالية للبحر المتوسط متمسكون بالحوار ضمن منظومة 5+5، لما أتى للهاجس المغربي أي ذكر في أجندة الانشغالات الحقيقية. أشبه بملاحقة السراب يجتمع وزراء الخارجية وتلتئم اللجان القطاعية وتحاول لجنة المتابعة أن تضفي على وجودها معنى ما، لكن الحقائق على الأرض لا تشي بأن القطار المغاربي الذي توقف عند محطة الجمود منذ حوالى عقدين، في إمكانه أن يقلع وقد اعتلى محركه المزيد من الصدأ وتآكل المفاصل. إلى درجة باتت تحتم نقله إلى متحف لاستحضار الذكريات. أخفق الاتحاد المغاربي في التقدم خطوات إلى الأمام، حين لم تكن هناك أزمات تعتري أوضاع مكوناته، كل على حدة. وفي ظرف يهيمن فيه البعد الانتقالي على الأوضاع في ليبيا وتونس وانشغال موريتانيا باستحقاقات الرئاسة. يصعب توقع إنجاز طموح كبير. عدا أن المنطقة باتت قاب قوسين من معاودة سياسة المحاور التي تفرقت بين أطرافها. وبعد أن ترسخ الاعتقاد بأن منطقة الشمال الإفريقي ستكون مختلفة في ظل تداعيات الربيع العربي، غاب البعد المغاربي في كافة خطواتها، باستثناء مبادرات محدودة توقفت عند منتصف الطريق. منطقياً لا تسمح أوضاع الدول المغاربية في الوقت الراهن بتعزيز آليات الحوار فيما بينها. فقد طاف الليبيون على العواصم المغاربية بحثاً عن دعم يعاود بناء الأمن والاستقرار، وانكفأ التونسيون على ترتيب أوضاع فترة انتقالية طالت أكثر من اللازم. وبقي المغاربة والجزائريون يتواجهون مع بعضهم على مساحة واسعة من الخلافات التي شملت أسس الخيارات السياسية. ولا يترجم خفض مستوى تمثيل الجزائر في اجتماع وزراء الخارجية حالة النفور التي تعتري العلاقات بين الرباط والجزائر فحسب، بل يمتد ليجعل الهموم المغاربية في أدنى ترتيب. لم تصل العلاقات بين الشركاء المغاربيين إلى مستوى اللاعودة، فقد أبدوا حرصاً على اقتفاء أثر التجربة الخليجية. لكن الأخيرة على رغم كل التحديات والأزمات أبقت على خيوط الحوار والاتصال، ما يسعف البلدان المغاربية في أن تحذو الاتجاه ذاته، عبر إقرار مرجعية يصار إلى الاحتكام إليها عند اندلاع أي خلاف. ولم يحدث أن ساعد السكوت عن الأزمات في حلها. غير أن فيروس العدوى الإيجابية لم يحلق في السماء المغاربية، وإلا لكان أهل المغرب استخلصوا الدرس من تجربة الاتحاد الأوروبي الذي يقيمون معه أكثر من العلاقات الاقتصادية والتجارية والثقافية متانة. تفيد المتغيرات التي طرأت على المشروع الأوروبي منذ انطلاقه في تلمس الطريق، كونه رسم صورة مستقبلية ما فتئ يعد لها في كل مرحلة، فقد استقرت على ضفاف القوة الاقتصادية من خلال إنشاء السوق الأوروبية المشتركة، ثم توسعت في اتجاه الوحدة النقدية وجذب بلدان أوروبا الشرقية، وصولاً إلى بلورة معالم قوة اقتصادية وسياسية مؤثرة في التوازنات الدولية. وعلى رغم تغير الحكومات التي تأتي بها صناديق الاقتراع ظل البناء الأوروبي محورياً، فيما عاد المغاربيون بعد ربع قرن على إبرام معاهدة مراكش للتساؤل إن كان يتعين البدء بالبناء الاقتصادي أو ترميم الهياكل السياسية أو إلغاء المشروع من أساسه. لا يقولون ذلك صراحة، إلا أن التمسك بجزئيات الخلافات يحد من فعالية أي توجه. ولا يلوح في الأفق ما يجذر القناعة بأن دول الشمال الإفريقي أفادت من تجاربها المتعثرة في هذا المجال، فقد أخلفت موعد انهيار الحرب الباردة التي كان يفترض أن يساعد في إسقاط خلافات الأنظمة والخيارات الإيديولوجية. وهي اليوم بصدد إخلاف موعد ما بعد الربيع العربي، إذ لم تتمكن من بناء نظم واقية تشيع الأمن والاستقرار. حين تطلب ليبيا الاستعانة بالمجتمع الدولي لمساعدتها في تثبيت أركان الأمن، فدلالات ذلك أن جوارها الإقليمي لم يضطلع بدوره في المساعدة. وحين يهتم تجمع بلدان الساحل والصحراء بملفات الحدود والحرب على الإرهاب والانفلات والجريمة، فإن ذلك يعني أيضاً غياب الرادع المغاربي. وحتى في هكذا التزامات لا خلاف حولها، لم تفلح الدول المغاربية في الاتفاق على الحد الأدنى مما يجب فعله، الأدهى أن الخلافات امتدت لتشمل الجوار الإفريقي، بخاصة ما يتعلق بالتعاطي والتحديات الأمنية التي تواجهها منطقة الساحل. كان الانكفاء مقبولاً بغاية ترتيب الأوضاع الداخلية. وبدا الآن أنه في طريقه لأن يفرض واقعاً جديداً على المنطقة التي لا تلتفت دولها لغير أزمات الداخل. مع أن الفضاء المغاربي طرح أصلاً ليكون معابر تصريف تلك الأزمات، إذ ينتشر الإخاء والتعايش والتعاون. بيد أن اجتماع وزراء الخارجية المغاربيين إذ يلتئم تحت ظلال سريان مفعول إغلاق الحدود بين أكبر بلدانه، المغرب والجزائر، فالأمر لا يحتاج إلى دليل إضافي بأن المشروع أشبه ببطة عرجاء توحي بالدهشة والشفقة في آن واحد.