يصف أبو القاسم صاعد الأندلسي حال الفلسفة كما تجسدها لحظة المنصور بن عامر الذي أحرق كتب الفلاسفة: «وفعل ذلك تحبباً إلى عوام الأندلس (...) إذ كانت تلك العلوم مهجورة عند أسلافهم، مذمومة بألسنة رؤسائهم، وكان كل من قرأها متهماً عندهم بالخروج من الملّة، ومظنوناً به الإلحاد في الشريعة، فسكن أكثر من تحرك إلى الحكمة عند ذلك، وخملت نفوسهم، وتستروا بما كان عندهم من تلك العلوم» (التعريف بطبقات الأمم،ص 163-164) لم تكن الفلسفة دائماً في حال أفضل في اللحظات التاريخية المختلفة زمانياً ومكانياً عن لحظة المنصور بن عامر، إذ بقيت بالنسبة إلى العوام عسيرة على الهضم شكلاً ومضموناً. ورغم أن المصطلحات الفنية الخاصة بعلوم كالطب والتنجيم والفلك والخيمياء والرياضيات وغيرها لم تكن تقل تجريداً ولا صعوبة عن المصطلحات الفنية الخاصة بالفلسفة، إلا أن ارتباط تلك العلوم بالناحية العملية والنفع المباشر جعلها أكثر تقبلاً مقارنة بالفلسفة. وإذا صح أن الجماهير، كما يرى غوستاف لوبون، ليست متعطشة للحقيقة بل غالباً ما تتعلق بالأوهام فتقدم اللاواقعي على الواقعي، فإننا نضع يدنا على أحد أسباب بقاء الفلسفة بضاعة كاسدة لم تلقَ الرواج بين جمهور العوام لتبقى ثقافة نخبوية حرمت من امتدادها الأفقي، الأمر الذي ساهم إلى جانب عوامل أخرى في حالة العداء ضد الفلسفة واستمرار النظر إليها باعتبارها علوم الأوائل، أي الآخر المخالف في الملة والعقيدة. هذه الحالة الجماهيرية كانت عرضة لاستغلال رجال السلطة السياسية والتوجّهات الدينية ذات العقلية الغيبية النصّية الأقل تنوراً، تلك التي رأت في طالب الحقائق من العقل كحاطب ليل، وكان الهدف دائماً ضمان حرمان الفيلسوف مما قد يشكل رأياً عاماً يكون سنداً له. من جانب آخر، فإن استغلال تلك الحالة الجماهيرية واللعب عليها كان سبباً في تكريسها لتصبح أكثر حدة. ونتيجة لذلك كان الفيلسوف عرضة لتأليب الجماهير المستمر عليه وللقمع الممارس ضده باسم هذه الجماهير. كان على الفيلسوف الذي تمسك بخيار المواجهة أن يحكم مبكراً على أفكاره بانعدام الفعّالية التاريخية. هذه هي حال الوراق وابن طالوت والرازي وغيرهم. آخرون لجأوا إلى نوع من التقيّة في محاولة للتحايل على هذا الواقع والالتفاف عليه والحفاظ على دور ما في الحراك الاجتماعي المعرفي. برزت هذه التقيّة بأشكال عدة، فامتطت الفلسفة حصان الطب (ابن سينا وابن رشد) تارة، وحصان الأدب (مسكويه وابن زرعة وابن العميد وأبي الحسن العامري والمعري وأبو حيان التوحيدي) تارة أخرى. لكن هذه المطيّة في الواقع مكنت الفيلسوف من التقرب إلى السلطة السياسية والتنعم لبعض الوقت بمكاسبها أكثر بكثير مما مكنته من التقرب إلى جمهور العوام. ولم ينجُ الفيلسوف مع ذلك من انقلاب السلطة السياسية عليه، ليدفع ثمناً لهذه المغامرة إما حريته وإما حياته وإما نتاجه المعرفي، وربما ذلك كله. أما تلك التقيّة المتمثلة في محاولة التوفيق بين الفلسفة والدين والتي اتخذت أشكالاً ومسميات عدة في مراحل تاريخية مختلفة منذ لحظة الإرهاص بها في حقل علم الكلام ( التوفيق بين العقل والنقل، التوفيق بين الظاهر والباطن، التوفيق بين الحكمة والشريعة) فكانت خياراً بديلاً من المواجهة المباشرة. ففي مجتمع مؤسس على الدين كان يجب إعادة بناء العلاقة بين الشريعة والحكمة على نحو مغاير لما هي عليه. أي التصالح مع الدين من أجل حيازة المشروعية لما هو غير مشروع بعد. لكن اليوتوبيا الفارابية المشرقية المتفائلة نسبياً حول المدينة الفاضلة ستصاب بنكسة كبرى في المغرب العربي أفصحت عن نفسها في سياسة تدبير المتوحد عند ابن باجة، ليتنازل الفيلسوف عن عرش الرياسة ويعيش كالنابت الغريب عما يحيط به من زرع حاملاً مدينته الفاضلة في داخله. ورغم أن محاولة التوفيق تلك بلغت ذروتها عند فيلسوف وقاضي قرطبة أبي الوليد ابن رشد لترتفع الى مرتبة الفتوى الشرعية، إلا أن الإخفاق كان أيضاً من نصيب تلك المحاولة الرشدية الفريدة، ليُنفى الرجل إلى «ألسانه» بعد أن أحرقت كتبه جنباً إلى جنب مع كتب خصومه من المتفلسفين كأبي حامد الغزالي. هناك نوع آخر من التقيّة تبرز في النص الفلسفي نفسه. فقد جاء هذا النص مرمزاً متعدد الإشارات والدلالات بدل أن يلجأ إلى العبارة التقريرية المباشرة. وربما يكون هذا أحد المعاني الممكنة لـ «التستر» الوارد أعلاه عند أبي القاسم الأندلسي. وإذ يلجأ الفيلسوف إلى المجاز اتقاء شر العوام فإنه يجعل نصّه مشروطاً بمستوىً من الثقافة لم يتوافر لدى هؤلاء العوام الذين كانت الفلسفة بالنسبة إليهم مهجورة عند أسلافهم مذمومة بألسنة رؤسائهم. هنا تبرز أمام العوام صعوبة أخرى تتعلق بفهم النص الفلسفي تضاف إلى الصعوبة التي وجدوها في الاعتراف بهذا النص وقبوله. تلك الأشكال المتعددة من التقيّة التي فُرضت على الفيلسوف قبل أن يختارها لم تزد الهوة بينه وبين جمهور العوام إلا اتساعاً. لقد أتقنت السلطتان السياسية والدينية سياسة تدبير العوام في حين أن الفلسفة لم يكتب لها في ذلك نجاح يذكر، ما دفع الفيلسوف لإعلان انسحابه من الحياة العامة بعد محي الدين ابن عربي. وها هو التوحيدي يصبّ جام غضبه على العوام محملاً إياهم المسؤولية عن هذه العلاقة المضطربة فيصفهم بـ «الهَمج الرُعاع» الذين إن قلت لا عقل لهم كنت صادقاً. فقد يئس التوحيدي من سعيه المستمر لتحصيل «المكانة فيهم، ولعقد الرياسة بينهم، ولمد الجاه عندهم» فيوصي بأن تحرق كتبه بعد مماته معللاً ذلك، كما ينقل عنه ياقوت الحموي (إرشاد الأريب،ج5/386 )، بقوله:«إني فقدت ولداً نجيباً وصديقاً حميماً وصاحباً قريباً وتابعاً أديباً ورئيساً منيباً، فشق عليّ أن أدعها لقوم يتلاعبون بها، ويدنّسون عرضي إذا نظروا فيها، ويشتمون بسهوي وغلطي إذا تصفحوها، ويتراءون نقصي وعيبي من أجلها». * كاتب فلسطيني - دمشق