دخلت الأزمة الأوكرانية منعطفاً جديداً، بعد اعتماد بعض مناطق البلاد، ذات الأغلبية الناطقة بالروسية، مبدأ الاستفتاء على تقرير المصير. في مقاطعة دونيتسك، طرح دعاة الاستقلال سؤالاً على سكان المقاطعة، يقول: "هل تؤيد قانون استقلالية جمهورية دونيتسك الشعبية؟". وقد شكلت 55 لجنة انتخابية، وأكثر من ألفي مركز انتخابي، وتمت طباعة ما يزيد على مليوني ورقة اقتراع. وبدا الرأي العام في الشرق والجنوب الشرقي الأوكراني ميالاً نحو الخروج من قبضة السلطة المركزية في كييف، وإن تحت عناوين بدت متباينة بين منطقة وأخرى، فسقف المطالب ظل متفاوتاً على نحو كبير. إن هذه المناطق، القريبة ثقافياً ولغوياً من روسيا، والتي يتاخم بعضها الحدود الروسية، تمثل مركز الثقل الاقتصادي للدولة الأوكرانية، ومن دونها، أو بلحاظ اضطرابها الأمني، يبدو الاقتصاد الأوكراني في مهب ريح عاتية. هذه المناطق قد شهدت في الفترة الأخيرة تصعيداً مفاجئاً، وذلك عندما سيطر متظاهرون على مبانٍ رسمية في مقاطعات خاركوف ولوغانسك ودونيتسك. وفي هذه الأخيرة، سيطر المحتجون على مقر إدارة المقاطعة، وأعلنوا إنشاء "جمهورية دونيتسك الشعبية"، و"مجلس شعبي" دعا إلى الاستفتاء على تقرير المصير. إن التطوّرات السياسية والأمنية قد تصاعدت بوتيرة متسارعة، وحدث ما لم يكن في حسبان البعض، حيث اشتبكت القوات الأوكرانية مع المتظاهرين، مدعومة بتشكيلات مسلحة لأحزاب اليمين القومي. وكانت محصلة المواجهات عشرات القتلى. وفي مدينة سلافيانسك وحدها، أعلن بأن عشرة أشخاص لقوا مصرعهم، في الخامس من أيار مايو، بعد أن تجدد هجوم الجيش الأوكراني عليها. وتعتبر سلافيانسك، الواقعة في مقاطعة دونيتسك، معقل المعارضة المطالبة بالاستقلال. في هذه المواجهة غير المتكافئة في الأصل، أعلنت السلطات الأوكرانية هي الأخرى عن خسائر متفاوتة في صفوف قواتها، كما سقطت لها مروحية حربية، قرب مدينة سلافيانسك، في الخامس من أيار مايو، نتيجة إصابتها بنيران رشاش ثقيل. وقبل ذلك، كان المحتجون قد أسقطوا ثلاث مروحيات عسكرية للجيش الأوكراني. وإلى الجنوب، أعلن وزير الداخلية، أرسين أفاكوف، عن وصول كتيبة خاصة إلى مدينة أوديسا الساحلية، التي شهدت في الثاني من أيار مايو سقوط نحو 40 شخصاً من أنصار المعارضة، وذلك في حريق بمبنى النقابات، الذي احتموا به إثر هجوم وقع على مخيّمهم. وقال أفاكوف: إن الكتيبة الخاصة تضم نشطاء مدنيين شاركوا في الاحتجاجات، التي أدت في شباط فبراير الماضي إلى سقوط حكم الرئيس فيكتور يانوكوفيتش. وفيما بدا استعداداً لمرحلة طويلة من الصراع، وقع الرئيس الأوكراني، ألكسندر تورتشينوف، في الأول من أيار مايو، مرسوماً يقضي باستدعاء المواطنين للخدمة العسكرية. كذلك، أعلن جهاز الأمن الأوكراني عن فتح "الخط الساخن" للمتدربين عسكرياً، الذين يرغبون في الانضمام إلى صفوف القوات النظامية، التي تخوض المواجهات في مناطق الشرق والجنوب. وكان الرئيس الأوكراني السابق، فيكتور يانوكوفيتش، قد وقع في تشرين الأول أكتوبر الماضي مرسوماً ألغى بموجبه نظام الخدمة العسكرية الإلزامية، لمصلحة الخدمة في الجيش عبر التعاقد. وفي رسالة وجهها إلى الشعب، في الثلاثين من نيسان أبريل 2014، قال الرئيس ألكسندر تورتشينوف: إن هيئات الأمن في مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك عاجزة عن تنفيذ واجباتها. والأكثر من ذلك فإن بعض أفرادها يتعامل مع جماعات المعارضة. وأضاف قائلاً: أن "عجز وخيانة موظفي هيئات الأمن في هاتين المقاطعتين يعدان سببين رئيسين لعدم فاعلية أجهزة الأمن الأوكرانية في مكافحة الإرهاب". ومن ناحيتها، فتحت النيابة العامة الأوكرانية دعاوى جنائية بحق قادة وحدات قتالية رفضوا تنفيذ أوامر السلطات في مناطق شرق البلاد. وقالت سلطات كييف إن معظم عناصر وزارة الداخلية في هذه المناطق، البالغ عددهم أربعة آلاف عنصر، غير قادرين على العمل. وتعتبر أوكرانيا دولة متوسطة بالمعيار الجغرافي، حيث تتجاوز مساحتها بقليل الست مئة ألف كيلومتر مربع. وهي ثالث أكبر دول الاتحاد السوفياتي السابق، بعد روسيا ذات السبعة عشر مليون كيلومتر مربع، وكازاخستان، التي تبلغ مساحتها مليونين وسبعمائة وعشرين ألف كيلومتر. ويبلغ عدد سكان أوكرانيا 46 مليوناً وست مئة ألف نسمة. وفي العام 2012 بلغ الناتج القومي الإجمالي للبلاد340.7 مليار دولار، وبلغ معدل دخل الفرد السنوي فيها 7500 دولار. وتستورد أوكرانيا حوالي 147 ألف برميل من النفط يومياً، كما تبلغ وارداتها من الغاز الطبيعي 36.4 مليار متر مكعب، يأتي من روسيا. وهي تُعد من كبار مستوردي الغاز في العالم، إذ تحتل المرتبة 12 عالمياً على هذا الصعيد، بعد الصين (42.5 مليار متر مكعب)، وقبل إسبانيا (35.9 مليار متر مكعب). على صعيد مقاربة الأزمة الراهنة، ثمة معضلة بادية للعيان، والدولة الأوكرانية هي اليوم بين خياري المواجهة الداخلية أو القبول بمبدأ الفيدرالية كحل وسط، مادام الانفصال مرفوضاً من الأصل. وخيار أوكرانيا الفيدرالية بات له أيضاً بعض المناصرين في دول الاتحاد الأوروبي. وعلى الرغم من ذلك، هناك من يرى أن القبول بالخيار الفيدرالي قد يُعرض السلطات الأوكرانية الحالية لسخط المتطرفين القوميين، الذين يمسكون بمفاصل أساسية في مؤسساتها. وربما يتسبب هذا الأمر في حدوث انقلاب جديد في البلاد. في المقابل، فإن استمرار الحملة العسكرية الراهنة ضد الشرق الأوكراني قد يقود إلى حرب أهلية شاملة، تضع أمن أوروبا برمته في مهب الريح. وفيما بدا إدراكاً بخطورة الوضع القائم، قالت الحكومة الألمانية إن المستشارة، أنجيلا ميركل، تدعم اقتراح وزير خارجيتها الخاص بإجراء لقاء دولي جديد في جنيف لتسوية الأزمة الأوكرانية. وكان وزير الخارجية الألماني، فرانك فالتر شتاينماير، قد أعلن إنه من الضروري عقد لقاء جديد في جنيف لبحث سبل نزع فتيل التوتر. وأشار إلى أنه أجرى سلسلة محادثات مع نظرائه، دعا خلالها إلى عقد جولة ثانية من المفاوضات. وكان اللقاء الأول، الذي عقد في جنيف في 17 نيسان أبريل الماضي، قد أسفر عن توصل الأطراف المتنازعة إلى اتفاق ينص على وضع حد لأعمال العنف، ونزع سلاح جميع التشكيلات المسلحة غير النظامية، سواء الموالية للحكومة أو المعارضة لها، وإطلاق حوار وطني. إن الاجتماع الدولي الجديد، في حال عقده، قد لا يسفر عن نتيجة حاسمة، لأن الوقت يضيق كثيراً أمام كافة الأطراف، ومزيد من المواجهة في الميدان تعني أن فرص التسوية السياسية هي إلى مزيد من التراجع. هذه التسوية، التي لا تزال مفقودة، لا ترمي بتداعياتها السالبة على الداخل الأوكراني وحده، بل كذلك على العلاقة بين روسيا والغرب. لقد قدر لأوكرانيا أن تكون منطلق الموجة الجديدة للحرب الباردة الدولية، في حين كان يعتقد أن الشرق الأوسط هو من سيطلق هذه الموجة. وبالأمس، كان قد أطيح بالرئيس فكتور يانوكوفيتش، قبل إتمام فترته الرئاسية، لأنه رفض توقيع اتفاقية اقتصادية مع الاتحاد الأوروبي، أو تحفظ مرحلياً عليها، كحد أدنى. والقضية هنا لا تتمثل في الاتفاقية بحد ذاتها، بل في مغزاها السياسي، على صعيد لعبة التوازنات داخلياً وخارجياً، بين الأوكرانيين الغربيين والشرقيين، كما بين الغرب وروسيا. وفي لعبة النفوذ الروسي الغربي، يُمكن أيضاً ملاحظة أن الرئيس الأوكراني الأسبق، ليونيد كوتشما، قد اعتمد سياسة توازن متعددة المحاور بين موسكو والغرب، إلا أنه اتجه في الأخير إلى توقيع العديد من معاهدات التعاون الاقتصادي مع روسيا. كذلك، عدّل كوتشما من العقيدة العسكرية الأوكرانية، متخلياً عن هدف الالتحاق بحلف شمال الأطلسي (الناتو). وعلى نحو خاص، فإن مقاربة ارتباط أوكرانيا بهذا الحلف قد بدت في الأصل على درجة واضحة من التعقيد، ولذا جاء قرار قمة بوخارست عام 2008 باستبعاد ترشيحها، في حين أعلن عن ضم كل من ألبانيا وكرواتيا. وكانت أوكرانيا في طليعة شركاء الناتو الذين اقترحوا المشاركة في قوات الردع السريع الأطلسية، وهي قوات تتكون من وحدات خاصة يُمكنها التعامل الفوري مع الأزمات الطارئة. كذلك، تعتبر أوكرانيا الدولة الوحيدة بين شركاء الناتو التي كانت تساهم في ثلاث عمليات تحت قيادته: في كوسوفو، وأفغانستان، وما يعرف بعملية "المجهود النشط" في البحر الأبيض المتوسط. وغير بعيد عن ذلك، كانت السلطات الأوكرانية قد أرسلت أكثر من 1500 فرد من قوات حفظ السلام إلى العراق، عملت تحت مظلة القوات التي قادتها بولندا. نحن الآن قد نكون أمام مشهد جديد في بيئة النظام الدولي، تشكله إعادة إنتاج العلاقة بين الشرق والغرب. وذلك سيتوقف على المسار الذي تسلكه الأزمة الأوكرانية. لا أحد على الأرجح يُريد حرباً بادرة جديدة، لكن هذه الحرب قد وقعت، والحديث هو عن كيفية إدارتها، لا عن إثبات وجودها من عدمه.