×
محافظة المنطقة الشرقية

المصطفى مديراً لعلاقات بريد الشرقية

صورة الخبر

من ناحية موضوعه ومنطقه، يتحدث الفيلم الروائي الطويل الأخير «نجم ساطع»، الذي حققته المخرجة النيوزيلندية جين كامبيون في العام 2009 عن الشاعر الإنكليزي جون كيتس بحيث يشكل ما يشبه السيرة السينمائية لذلك المبدع الرومنطيقي. والحقيقة ان كثراً من النقاد الذين كان قد تناهى الى علمهم قبل انجاز الفيلم ان كامبيون في صدد تصوير سيرة الشاعر، دهشوا متسائلين عما إذا كانت صاحبة «البيانو» و «دخان مقدس» قد بدّلت من الاتجاه العام لمواضيعها السينمائية هي التي اتسمت أفلامها جميعاً، منذ بداية اشتغالها على السينما الروائية الطويلة، على الأقل، بنزعة نسوية واضحة... كانت هي فخورة بها الى درجة انها لم تخف سرورها الكبير في العام 1993 حين كانت اول سيدة مخرجة تفوز بالسعفة الذهبية في مهرجان «كان»، عن فيلمها «البيانو» تحديداً، كما كانت في الوقت نفسه ثاني مخرجة ترشح وتفوز بأوسكار افضل سيناريو أصلي... فجين كامبيون عرفت منذ البداية كيف تكرّس أفلامها لقضية النساء وعلاقتهن بالمجتمع، هي التي قبل السينما وقبل المهرجانات كانت في الجامعات التي درست فيها في وطنها او في استراليا، منافحة عن حقوق المرأة. فما الذي حدث؟ وما الذي دفعها في ذلك الحين الى أفلمة سيرة رجل؟   المرأة دائماً لا شيء على الإطلاق... لم تتغيّر جين كامبيون يومها. كل ما في الأمر انها في ذلك الفيلم الذي بدا لافتاً حين عرض في «كان»، لم تتحدث عن الشاعر كيتس بمقدار ما تحدثت عن حبيبته فاني براون. بل إن كيتس في الفيلم، بدا دوراً ثانوياً مقارنة بدور براون التي جسدتها واحدة من ألمع النجمات الجادات في السينما الأنغلو – ساكسونية المعاصرة، آبي كورنيش. بل إن فاني براون كانت من الحضور في الفيلم الى درجة ان كثراً تعاملوا معه على انه «سيرة لامرأة مجهولة»... خصوصاً ان تلك المرأة في الفيلم لن تختلف كثيراً، في سماتها الروحية والعامة عن بقية النساء اللواتي اعتدن ان يملأن أفلام جين كامبيون وحكاياتها. وفي هذا السياق، لم يكن غريباً ان تعنون صحيفة «ذا اندبندنت» البريطانية مقالاً نشرته في العام المبكر 1993 وتحدّث تحديداً عن فيلم «البيانو» لكامبيون بعبارة «نساء كامبيون المخبولات»... ومع هذا، حتى ذلك الحين، لم يكنّ بعد قد تكاثرن نساء أفلام جين كامبيون، ففيلم «البيانو» كان فقط فيلمها الروائي الطويل الثالث بعد «سويتي» (1989) و «ملاك على مائدتي» (1990)... ومع هذا كان من الواضح ان كامبيون حدّدت توجّه سينماها وإصرارها على ان تقدم في أفلامها شخصيات نسائية لهنّ المكان الأول في الحكاية كما ان لهنّ حرية الجنون والجموح والعشق. وفي اختصار: حرية الردّ على المجتمع بأقسى من مبادرته تجاههن. واضح إذاً، انهن لسن مخبولات بالمعنى البسيكوباتي للكلمة، بل بالمعنى الاجتماعي، بالمعنى الذي يمكن ان تكون فيه جلسومينا «مخبولة» في فيلم «الطريق» لفيلليني. اي انه الجنون الذي يستخدم لمجابهة المجتمع والرد على جنونه العنيف. من هذه الطريق اختارت جين كامبيون ان تشق دربها لتقدم تلك السينما التي اعتبرت على الفور «نسوية» و «رؤيوية»... وهو أمر أكدته المخرجة لكاتب هذه السطور حين التقاها وحاورها في «كان» عام فوزها بالسعفة الذهبية (ونُشر الحوار يومها في شقيقة «الحياة» «الوسط» التي كفت عن الصدور بعد ذلك بسنوات). في ذلك الحوار قالت كامبيون إذ سألناها عن ذلك الحضور الطاغي للنساء الهامشيات في أفلامها، «ألا تعتقد معي ان امتلاء أفلامي بشخصيات نسائية هامشية، أمر طبيعي؟ أولا تعتقد معي ان من مهمات الفن الرئيسة ان يكشف عما هو إنساني وعميق داخل تلك الشخصيات التي نعتقدها على الدوام هامشية تغرّد خارج المجتمع وخرافاته وقوانينه العبثية، فقط؟ قل لي على اية حال: ما هو الهامشي وما هو «الاجتماعي»؟ ومنذا الذي يحق له ان يحدد تموضع هذا او ذاك؟ إن الشخصيات التي أقدمها – وصدقني ان ليس من الصدفة ان تكون شخصيات نسائية – تبدأ حياتها على الشاشة باردة بعيدة من عاطفة المتفرج ووجدانه، لكنها سرعان ما تقترب منه، تغزوه وتهيمن عليه. ما يعني بالنسبة إليّ أنها شخصيات تبني إيجابيتها انطلاقاً من ذاتها، لا من اعتراف مجتمع القيم بها...». والحقيقة ان من يشاهد أفلام جين كامبيون السابقة على «البيانو» الذي كان هذا الحديث يدور لمناسبته، أو التالية له... سيدرك سريعاً كم ان المخرجة تبدو دقيقة في توصيفها وتوصيف «نسائها» المنتشرة فيها.   السيدة الجريحة مهما يكن من أمر، حين أجرينا ذلك الحوار مع كابيون، لم تكن نتائج دورة «كان» قد أُعلنت بعد، ولكن كان ثمة إجماع على قوة الفيلم وجماله وعلى انه لا بد سيكون فائزاً بجائزة كبيرة في نهاية الأمر، بل إن السعفة لن تكون بعيدة منه. يومها إذ عبّرنا لجين كامبيون عن رأينا هذا، ابتسمت بخجل من دون أن تجيب. ولعل سبباً إضافياً كمن وراء صمتها الذي حل مكان الجواب: كانت حاملاً في شهر متقدم وكان الطقس في «كان» حاراً متعباً وكان من الواضح ان آلام السيدة لم تكن لتقل عن فرحها بالإجماع الذي ساد من حول الفيلم. وسنعرف لاحقاً ان وليد المخرجة لم يعش طويلاً بعد ان وضعته وقد استبد بها الإجهاد فقضى وهو لا يتجاوز اليوم الثاني عشر من عمره. بسرعة حينها عرفت جين كامبيون كيف تتجاوز محنتها... وحملت من جديد لتنجب بعد فترة طفلة صارت لاحقاً من خير الممثلات الأطفال في السينما الأنغلوساكسونية... لكن جين طلّقت زوجها في الوقت نفسه، منكبّة على عملها السينمائي الذي كان نجاح «البيانو»، المهرجاني ولكن الجماهيري ايضاً، قد جعله اسهل منالاً من ذي قبل. فبفضل «البيانو» الذي جعل منها نجمة في عالم السينما العالمية، كما أضفى شهرة كبيرة على بطلته هولي هنتر وعزز من مكانة شريك هذه في البطولة، هارفي كيتل – الذي اشتهر عنه دائماً تفضيله العمل مع مخرجين من الصف الأول -، صار في وسع سينما جين كامبيون ان تخرج من الإطار الضيق للمنطقة الجغرافية التي كانت تتحرك فيها من قبل: أستراليا ونيوزيلندا، اي المنطقة التي كانت حققت فيها نصف دزينة من الشرائط القصيرة – ومنها واحد كان عرّف أهل «كان» عليها وهو «بييل» الذي كان باكورتها وفاز بأفضل فيلم قصير في «كان» 1982 -، ثم افلامها الروائية الطويلة الثلاثة الأولى ولا سيما الفيلم الثاني «ملاك على مائدتي» الذي كان عبارة من سيرة سيكولوجية للشاعرة النيوزلندية «الغريبة الأطوار» جانيت فريم... بعد «البيانو» إذاً، صار في وسع كامبيون ان تحلّق بعيداً، وصار من الممكن لها ان تدير نجمات (ونجوم) كبيرة... ومن هنا لم يكن غريباً ان تعطي نيكول كيدمان التي كانت في ذلك الحين في ذروة شهرتها ومكانتها، الدور الرئيس في اقتباسها اللافت لرواية هنري جيمس «صورة سيدة» (1996) الفيلم الذي عزز من دون ادنى شك «نسوية» سينماها... لتلي ذلك إدارتها كيت وينسليت في فيلم «دخان مقدس» (1999) الذي لعبت فيه هذه الأخيرة الى جانب هارفي كيتل واحداً من أجمل أدوارها، دور ابنة العائلة المتمردة على بيئتها وأهلها الى حدّ السفر على طريقة الهيبيين الى الهند وعيش مغامرة غريبة وقاسية هناك فيما يكلف اهلها التحري كيتل البحث عنها واستعادتها. ولعله يجدر بنا ان نلاحظ ان هذا الفيلم الأخير حقق في الصالات نجاحاً لم يتمكن من تحقيق ما يماثله الفيلم السابق عليه. غير ان جين كامبيون كانت، على اية حال، قد تجاوزت المرحلة التي كان عليها فيها ان تنتظر شبابيك التذاكر كي تعرف مكانتها وتقنع الآخرين بها. كانت قد صارت قيمة ثابتة، حتى وإن كانت هي قد باتت تفضل عرض أفلامها مباشرة في الصالات من دون المرور بطهر المهرجانات والاستعانة بسمعة الجوائز وهيبتها. فهل كان هذا نوعاً من التأمرك على ما أشار بعض نقادها حبن حققت في العام 2003 فيلمها التالي «عند القطع»؟   نيويورك القاتلة للوهلة الأولى بدا النقاد محقين، ففيلم «عند القطع» فيلم أميركي بل هوليوودي خالص وليس فقط لأن بطولته لميغ رايان إحدى ألمع الهوليووديات وأصفاهن، وليس فقط لأن أحداثه تدور في نيويورك، بل كذلك لأن موضوعه «أميركي» بامتياز: موضوع القتل بالتسلسل والتحقيق للوصول الى القاتل السفاح يقوم به شرطي فاسد وسط أجواء ليلية قاتمة ومناخ من الرعب القاسي. غير ان هذا ليس سوى ظاهر الأمور. فالحقيقة ان كامبيون إذ «نقلت» سينماها الى اميركا هذه المرة، ظلت قادرة على تقديم سينما خاصة بها. سينما تُعقد بطولتها للمرأة وللمرأة المهمشة، وتمكن هذه البطولة الفيلم من ان يكون مندرجاً ضمن الخط الخاص بسينما هذه المرأة أكثر بكثير من اندراجه في سينما التشويق البوليسي الأميركية. والحال انطلاقاً من هنا، اننا إذا اكتفينا بالنظر الى هذا الفيلم على انه فيلم عن سفاح يقتل النساء ويطارده رجال الشرطة ويتم كشف أمره قبل ان يقضي على بطلة الفيلم، سنصاب بخيبة كبيرة، ذلك ان «عند القطع» لن يبدو الأفضل بين افلام هذا النوع حتى وإن كانت المخرجة قد ادرجت فيه كل الكليشيهات المعهودة... فالمهم هنا هو ان «فراني» الشخصية المحورية في الفيلم انما هي استمرار في مكان آخر لنساء كامبيون الأخريات النساء المهمشات المستلبات في بيئة يبدو فيها الذكر وحشاً جنسياً ساذجاً لا أكثر. ولقد كان واضحاً ان التعامل مع «عند القطع» على هذا الأساس سرعان ما يعطيه مذاقاً مختلفاً ليكشف ان المدينة والجرائم وضباط الشرطة ليسوا هنا سوى ديكورات لحلقة من سينما همّها مواصلة الكشف عن وضعية المرأة وإحباطاتها وعواطفها. هذا الأمر ستعود جين كامبيون وتؤكده بعد سنوات حين حققت «نجم ساطع» عن سيرة جون كيتس كما أسلفنا، وكانت قبله قد شاركت بفيلم قصير ضمن عمل جماعي لم ينل حظاً كبيراً من الانتشار. أما بعد «نجم ساطع» وحتى الآن، فلا شيء سينمائياً حيث غاصت السيدة في حلقات تلفزيونية عرضت بعضها قبل عام في دورة «كان» الذي تعود اليه اليوم كرئيسة للجنة التحكيم. فهل تكون هذه العودة إيذاناً بعودة الى الشاشة الكبيرة؟ لا بد، فهناك قضايا نسائية كثيرة لا تزال في الانتظار وتحتاج الى سينما قوية قوة سينما هذه النيوزيلندية التي تبلغ هذا العام سن الستين ولا تزال تبدو مفعمة بالنشاط والحماسة.