نزار الفراوي-الرباط لعل من السمات المثيرة للانتباه في السينما الفرنسية، على مدى السنوات الأخيرة، صعود العديد من الوجوه ذات الأصول العربية، خصوصا المغاربية، إلى صدارة الشاشة الكبرى في بلد يختزن تقاليد سينمائية عريقة. وبوصفها مرآة عاكسة للتطورات التي يعرفها المجتمع في تشكيلاته وأنماط علاقاته، يواكب هذا اللون المغاربي للسينما الفرنسية التحولات الكمية والنوعية التي عرفتها ظاهرة الهجرة المغاربية بفرنسا وإشكالية التعددية الثقافية ورهانات اندماج الأجيال الجديدة من أبناء المهاجرين في النسيج المجتمعي الفرنسي. ويفترض أن يكون هذا التواجد المكثف للمواهب المنحدرة من المغرب والجزائر وتونس أساسا، فرصة متاحة لهذا المكون الديمغرافي والثقافي المزدوج الثقافة والانتماء، للتعبير عن الذات وانتزاع حق الكلام عن نفسه بنفسه، بعد أن ظل لعقود طويلة موضوعا لتصورات مركزة تكرس خطابا عموديا يفتقر إلى المصداقية والقرب. في دورة مهرجان كان للعام 2006، سار على البساط الأحمر كل من الممثلين رشدي زم وسامي نصري وسامي بوعجيلة وجمال دبوز، وكلهم فرنسيون من أصول مغاربية. وقد فازوا بالسعفة الذهبية لأحسن تمثيل في فيلم "أنديجين" الذي أخرجه مغاربي آخر هو الفرنسي-الجزائري رشيد بوشارب، فكانت اللحظة تتويجا لرحلة أجيال متعاقبة من الظل إلى الضوء، داخل الفيلم وخارجه. وأثار ذلك الفيلم الذي تناول الإسهام الهائل للجنود المنحدرين من المغرب العربي في تحرير فرنسا من النازية جدلا واسعا حول الاعتراف الرسمي بهذا العطاء وحفّز الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك على تغيير نظام التعويضات الخاصة بقدماء المحاربين. أوجه متعددةهذا البروز اللافت لنجوم السينما في فرنسا، من أفراد الجيل الثالث للمهاجرين، يحيل إلى انفتاح هذه السينما على الأوجه المتعددة لأوضاع شريحة لها وزنها الديمغرافي والثقافي داخل الفسيفساء الفرنسية، من خلال الحديث عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي لأبناء الضواحي، وعلاقة أبناء المهاجرين بهويتهم الأصلية، كثقافة ومكان، وقضايا التمييز والعنصرية وغيرها."مدى مساهمة الوجوه المغاربية السينمائية في إحداث تغيير عميق على صعيد الأفكار الجاهزة تجاه الآخر يبقى محل تحفظ، بل إن كثيرا من الأدوار التي أداها ممثلون أو أنجزها مخرجون من أصول مغاربية تتجه نحو تكريس هذه الصور النمطية" وإن كان هذا المشهد المتعدد للسينما الفرنسية يحفز مكونات البلاد ككل على مساءلة موضوع العيش المشترك والتعددية الثقافية وتساكن الأديان والتقاليد، فإن مدى مساهمة الوجوه المغاربية السينمائية في إحداث تغيير عميق على صعيد الأفكار الجاهزة تجاه الآخر، الذي أصبح شريكا في الوطن، يبقى محل تحفظ، بل إن كثيرا من الأدوار التي أداها ممثلون أو أنجزها مخرجون من أصول مغاربية تتجه نحو تكريس هذه الصور النمطية. ولعل من نماذج هذه الأعمال مؤخرا فيلم "باريس بأي ثمن" (2012) للفرنسية من أصل تونسي، ريم خريصي، حيث تقدم قصة الصدام الداخلي بين المرجعيات التقليدية للآباء المشدودين إلى الأصل ونزعات التحرر لدى الأبناء الباحثين عن وضع اجتماعي جيد في البلاد التي ولدوا أو ترعرعوا فيها. جاء الفيلم متخما بالقوالب الجاهزة والمشاهد الفولكلورية لقرية مغربية تؤوي البيت الأصلي لأسرة فتاة تريد أن تكون فرنسية وأن تنجح في عالم الموضة الباريسية. أما في فيلم "الأسود يليق بك" (2012)، فإن الممثلة من أصل مغربي صوفيا منوشا تلعب بطولة فيلم يحكي قصة شابة ولدت لأسرة مغاربية، تعيش حياة مزدوجة بين مظهر تقليدي في البيت وارتداء الحجاب الأسود أمام والدها "التقليدي" ثم التحرر من الزي في أقرب مقهى باريسي، لتنتهي الحكاية بمصير مأساوي حين يقتلها شقيقها إرضاء لوالده بعد اكتشاف علاقتها غير الشرعية مع شاب فرنسي. اعتراف بالموهبةمع ذلك، واضح أن الجيل الجديد من السينمائيين الفرنسيين من أصول مغاربية انتزعوا اعترافا من أرقى المحافل الفنية الفرنسية والعالمية بموهبتهم. ولعل حرارتهم وثراء مرجعياتهم وعنف الواقع الذي أخصب تجربتهم في حضن أسر على هامش المجتمع الفرنسي يضخ حيوية تعبيرية على الشاشة. فقد أبهرت الممثلة الشابة الجزائرية الأصل ليلى بختي الجمهور والنقاد بموهبتها الطافحة التي خولتها الفوز بجائزة السيزار لأحسن ممثلة واعدة سنة 2011 عن دورها في فيلم "كل ما يلمع"، بل كانت قريبة من انتزاع سيزار أحسن ممثلة في العام الموالي عن دورها في فيلم "عيون النساء" الذي صور بالمغرب. وهي في الطريق لصنع مشوار سينمائي عالمي، إذ تصور حاليا دورها في فيلم "الحب والسلام" للمخرج الصربي الموهوب إمير كوستوريتشا. ليلى بختي تسير على درب زوجها، الممثل الموهوب طاهر رحيم، وهو من أصل جزائري أيضا، الذي برع في دوره بفيلم "نبي" الذي يحكي سيرة شاب من الضواحي يعيش عوالم الإجرام والسجون. وحصد طاهر رحيم عن هذا الدور جائزة السيزار 2010 لأحسن ممثل واعد، ولأحسن ممثل، كما فاز بجائزة السينما الأوروبية 2009. ويواكب هذا التألق المغاربي الأصل على الشاشات الكبرى في فرنسا، إجماع الفرنسيين على نجمين لا ينازعهما ثالث في عالم الفكاهة والعروض الساخرة الفردية، فضلا عن نجاحهما سينمائيا، وهما جمال الدبوز وجاد المالح، المنحدرين من المغرب. وعلى غرار ما شهدته ملاعب كرة القدم في فرنسا وتشكيلة منتخبها القومي الذي حصد كأس العالم بقيادة لاعب تجري في عروقه دماء الجزائر، هو زين الدين زيدان، فإن السينما الفرنسية تشكل، حالا ومستقبلا، مختبرا جديرا بالملاحظة لدينامية تلاقح وتعايش ثقافي وتضارب أنماط معيشية وسلوكية، باتت عنوانا للنسيج المجتمعي الفرنسي.