كتب سليمان الضحيان في مارس 2014 مقالته الرائعة في صحيفة مكة الجميلة والجديدة، التي ظللت أعود لها كلما شعرت (بالتصحر)، تحت عنوان «معرض الكتاب وتصحرنا الثقافي» http:/ / www.makkahnewspaper.com/ makkahNews/ 2014-02-17-09-03-10/ 30647/ 30647#.U2gT-vmSxUU وكلمة التصحر مأخوذة من مقالته التي كتبها في رده على أستاذ مغربي سأله متعجباً: «ماذا تصنعون في وقت فراغكم؟ فأنا في بلدكم منذ ثلاث سنوات لم أشهد أي حدث ثقافي أو فني، كل ما شاهدته محاضرة تعقد في النادي الأدبي، وهي غالبًا محاضرة باهتة، حتى أماكن تجمع الأصدقاء لم أجد أنا وبضعة أصدقاء مقهى رخيصًا على الرصيف في الهواء الطلق وسط البلد كما هو موجود في كل بلدان العالم، كل مقاهي المدينة مقاه مغلقة، كأنك في منزل، وغالية الثمن جدًا؟ قلت له: وماذا في المغرب من نشاط ثقافي أو فكري؟ قال: في كل مدينة مغربية عشرات الفرق الفنية، والمسرحية، والجمعيات الثقافية، ودور السينما، والمسارح. ففي نهاية الأسبوع أنت بالخيار بين حضور حفلة فنية، أو مسرحية، أو مشاهدة فيلم سينمائي، أو لقاء ديني، أو فكري، أو أدبي، فضلاً عن عشرات المقاهي في وسط المدينة، والمنتزهات في ضواحي المدن، وفي كل مدينة جامعة تقيم سنوياً في كل تخصص علمي فيها مؤتمراً علمياً دولياً، وتقيم في كل تخصص ندوة علمية على المستوى الوطني، ويُعقد سنوياً عشرات المهرجانات الفنية الدولية، كمهرجان السينما، ومهرجان الفنون الشعبية الدولي، ومهرجان الغناء الصوفي الدولي، ومهرجان المشغولات والحرف اليدوية الدولي، ومهرجان السياحة الدولي، وغيرها من المهرجانات الدولية، فضلاً عن عشرات المهرجانات المحلية. ويضاف إلى هذا الأنشطة الثقافية والفنية التي تعقدها الأحزاب، والجامعات، والمدارس، وجمعيات المرأة، وجمعيات الأرياف». السبت الماضي 3 مايو 2104 كتب الكاتب الإماراتي المعروف ياسر حارب في جريدة الشرق السعودية مقالته الجميلة، التي راجع فيها المشهد الأدبي في الإمارات، وذكر فيها كيف أنه حينما كان طالباً في الجامعة كان يزور المجمع الثقافي في أبوظبي، الذي لم يكن يمر أسبوع دون أن تتزين أروقته بملصقات تبشر بفعالية جديدة، كعرض موسيقي أو مسرحي أو سينمائي، كما كان يحرص على حضور فعالية (الكتاب بدرهم)؛ إذ يباع أي كتاب بدرهم واحد فقط (تصوروا!!)، وكيف تمكن من قراءة مئات من الآثار الإنسانية الرائعة عبر هذه المبادرة. كما أشار إلى المشروع الذي اعتبره من أهم المشاريع الثقافية في الإمارات، وهو مشروع كلمة، إضافة إلى النشاطات التي لا تنتهي لهيئة أبو ظبي للثقافة والتراث من فنون وآداب.. إلخ هذا. وهو لم يعرج على دبي وما يحدث فيها من (أحداث فنية وأدبية غير مسبوقة، ولم نعرج على الشارقة ولا عجمان)!! كل ذلك ساهم - كما أرى - في خلق الإنسان الإماراتي الذي لم يكُنْ تعريفه فقط من خلال الأبنية الشاهقة التي ملأت دياره بل اهتم القائمون على البلاد بتشكيل الإنسان الإماراتي عبر تقديم الفنون العالمية المختلفة لتربية إنسان الإمارات وغرس قيم القبول الإنساني والتعايش والجمال والمنطق، الذي في رأي الكاتب ساهم في خلق مئات الكتّاب والمبدعين والروائيين الإماراتيين الذين تفخر بهم بلادهم. ما الذي تفعله الفنون والآداب والسينما والمتاحف وغيرها من الفنون الثقافية؟ ولماذا يحرص العالم عليها؟ لأنها تعزز الإنسان فينا، وتذكرنا بما يحاول الإنسان البدائي امتلاكه داخلنا، وهو أننا يجب أن نتعايش، وأن نقبل بعضنا بعضاً حتى لو اختلفنا. في مدن كالرياض أو جدة أو الدمام حيث يتنامى عدد السكان، ويمتد تنوعهم إلى ما لا نهاية، من المهم جداً أن نحافظ على روح هذا الإنسان عبر إتاحة الخيارات المختلفة له، ومنها علاقته بالفنون والآداب التي يجب ألا تتعارض مع علاقته بربه. العلاقة مع الفنون والآداب والمسرح والمتاحف تساعد على تحفيز كل ما له علاقة بالفن والخيال والإنتاج الروائي والمسرحي والسينمائي. وفي عالمنا، وكما ذكر الضحيان، فقدان كل ذلك حولنا إلى صحار قاحلة، لا ينبت فيها إلا ما له علاقة بالصحراء: التشدد، الجلافة وصعوبة فهم الفنون والآداب والآثار الإنسانية؛ لأنها لم تكن - للأسف - جزءاً من الذاكرة الجمعية لهذا الشعب خلال حقبة التنمية، ثم جاءت موجة الصحوة؛ لتقضي على كل صغيرة وكبيرة فنية في حياتنا عبر نظام تعليمي وإعلامي مسيس ومريض، فماذا كانت النتيجة؟ اختفينا من العالم، إما عبر التطرف أو عبر الاختفاء وراء شبكات التواصل الاجتماعي، التي جعلت السعوديين من أكثر الشعوب استخداماً لهذه الشبكات. لكن لنسأل أنفسنا بعض الأسئلة المقلقة بعد تأمل بعض الحقائق المقلقة، مثل (قُتل في اليمن 37 عنصراً من القاعدة، أغلبهم من السعوديين)، (15 من بين 19 ممن قاموا بتفجير 11 سبتمبر المشؤوم كانوا سعوديين، أعلى نسبة مشاركة في وسائل التواصل الاجتماعي من السعوديين، أعلى نسبة في العالم لمن يعمل بحثاً على جوجل حول الجنس من السعوديين..). أعوذ بالله؟ ما هذا التشوه المزري؟ في عالم المدنية الحديث لا يقتصر الناس في حياتهم على التجمع بعد صلاة العصر في زاوية الشارع، يراقبون الرائح والغادي؟ إنهم ينهلون من المنابع الحضارية، ويساهمون في بناء العالم. لنسأل الآن أنفسنا؟ كيف يقضي أبناؤنا يومهم؟ سأجيب بالنيابة عنكم؛ ففي كل منزل هي القصة ذاتها: يقضون يومهم مختفين في أجهزتهم أو مثبتين لحدقات عيونهم في تلفوناتهم الذكية، لكنهم يعجزون عن التصرف في مشكلة ما، أو التعامل مع عامل البقالة مثلاً، أو فهم مراسم العزاء أو الزواج أو الاجتماع العائلي؛ لذا يبقون أعينهم مغروسة في هذه الأجهزة الذكية حتى يختفوا من التعامل المباشر مع الآخرين، الذي لا يجيدونه، إضافة إلى أنه لم يتم تعليمهم كيف يتعاملون مع الآخر أو مشاعره أو حقده أو تطرفه عبر المسرح والسينما وغيرها من آداب العالم المعاصر، كما لا توجد فعالية يمكن للأسرة كلها أو الشباب كله أو البنات كجماعة أن تنسق له، وتذهب له، إلا إذا أقاموا شيئاً في منازلهم؟ سألقي عليكم الآن سؤالاً آخر، سؤالاً ربما يهم كل الزوجات: كيف يقضي الأزواج السعوديون سحابة نهارهم بعد انقضاء الدوام؟ سأجيب أيضاً: في التويتر أو الفيس بوك أو الانسترجرام أو الكيك، أو غيرها من وسائل التواصل اللاإنساني! انظروا بعمق إلى كل هذه الصناديق المغلقة على نفسها، التي تعيش بيننا فيما نسميه منازل بأساورها العالية وأبوابها الموصدة، وتفكروا في عالمنا القاحل؟ ولنسال أنفسنا: أين نذهب هذا المساء؟