باريس: ستيفن إيرلانغر قضى الأوروبيون عقودا طويلة يفكرون في قوة ألمانيا والدور الذي يتعين عليها القيام به – في ما يسمى بالقضية الألمانية - نظرا لأهمية ألمانيا في تحقيق الاستقرار والازدهار في قارة أوروبا. والآن، تتحدث أوروبا عن «القضية الفرنسية»: هل تستطيع الحكومة الاشتراكية برئاسة فرنسوا هولاند سحب فرنسا من تراجعها البطيء ومنعها من الانزلاق بشكل دائم إلى المستوى الثاني في أوروبا؟ هل يستطيع النظام الديمقراطي الاشتراكي، الذي ظل يتباهى على مدى عقود طويلة بكونه نموذجا لتوفير مستوى مستقر ومرتفع من المعيشة للمواطنين، البقاء في ظل مزيج من العولمة والشيخوخة السكانية والصدمات المالية الحادة خلال السنوات الأخيرة؟ يرى المقربون من هولاند أنه يعي إلى حد كبير ما يتعين عليه القيام به من أجل خفض الإنفاق الحكومي والحد من اللوائح التي تؤثر على الاقتصاد. ومع ذلك، يفتقر هولاند للإرادة؛ وتخشى البلدان الصديقة لفرنسا، لا سيما ألمانيا، من أن يكون هولاند لا يملك الشجاعة السياسية اللازمة لمواجهة حلفائه واتخاذ القرارات اللازمة. من الصعوبة بمكان إحداث تغيير في أي بلد، ولكن يبدو التحدي في فرنسا أصعب من غيرها من البلدان، ويرجع السبب في ذلك بصورة جزئية إلى شعور الفرنسيين باحترام الذات وبأنهم زعماء القارة الأوروبية وأنهم قوة عظمى في العالم. ويتباهى الفرنسيون أيضا بالنموذج الاجتماعي، حيث يوجد نظام جيد للرعاية الصحية والمعاشات، كما يتقاعد العديد من الفرنسيين في سن الستين أو أقل من ذلك، ويحصل العمال على إجازة لمدة خمسة أو ستة أسابيع كل صيف، علاوة على أن العاملين بدوام كامل يعملون لمدة لا تتجاوز 35 ساعة في الأسبوع ويتمتعون بحماية كبيرة ضد تسريح العمالة أو الفصل من العمل. ولكن في ظل اقتصاد عالمي أكثر قدرة على المنافسة، لم يعد السؤال يتمثل في ما إذا كان النموذج الاجتماعي الفرنسي جيدا أم لا، ولكن المعضلة تكمن في قدرة فرنسا على الاستمرار في هذا النموذج أم لا. واستنادا إلى الاتجاهات الحالية، فإن الجواب بوضوح هو «لا» إذا لم يتم القيام بتغييرات هيكلية كبيرة في المعاشات التقاعدية والضرائب والمساعدات الاجتماعية وقواعد العمل. ولكن لا يبدو أن الحزب الاشتراكي الذي يتزعمه هولاند واليسار الفرنسي قد فهما ما قاله الأمير في رواية جوزيبي توماسي دي لامبيدوزا الشهيرة عن الاضطرابات الاجتماعية والتي تحمل اسم «ليوبارد»، حيث قال «كل شيء يحتاج إلى التغيير، ولذا سيبقى كل شيء كما هو». وعندما تتحدث إلى السياسيين والعمال الفرنسيين ينتابك شعور بأنهم ثوريون ومقاتلون ينتمون إلى اليسار، ولكن في الوقت نفسه، مثلهم مثل المنتمين لتيار اليمين المتطرف، يرغبون في عدم تغيير الوضع الراهن لأنهم يخشون المجهول. وفي شهر مايو (أيار) عام 1968، بدأ الطلاب في جامعة باريس بمدينة نانتير ما اعتقدوا أنه ثورة، حيث ألقى الطلاب الحجارة على الشرطة وطالبوا بتغيير النظام المتبع منذ انتهاء الحرب العالمية. وفي المدينة نفسها الآن، يدعو الطلاب الذين يشعرون بالقلق من قدرتهم على إيجاد فرص عمل ومن فقدان المزايا التي تقدمها الدولة، إلى عدم تغيير أي شيء على الإطلاق! ويرى رافاييل غلوكسمان، الذي قاد أول إضراب في المدرسة الثانوية عام 1995، أن أعضاء من جيله لديهم حنين كبير لآبائهم المتمردين ولكن ليست لديهم الرغبة في النضال والكفاح في تلك الأوقات الاقتصادية الصعبة. وقال غلوكسمان «الشباب الآن يرفض كل الإصلاحات. نحن لا نرى أي بدائل. نحن جيل ليست لديه القدرة على الاحتمال». وتحول الاشتراكيون إلى حزب محافظ، في محاولة يائسة للحفاظ على انتصارات القرن الماضي. ويبدو أن كثيرين في هذا الحزب، مثل أرنود مونتبورغ المناوئ للعولمة والذي يشغل منصب الوزير المسؤول عن تجديد الصناعية الآن، يعتقدون أن فرنسا ستكون على ما يرام إذا اختفى باقي العالم تماما أو إذا عمل بصورة أقل نشاطا وقوة! ومع ذلك، ثمة اعتقاد راسخ بأن عدم القيام بتغييرات هيكلية في الاقتصاد الفرنسي سيؤدي إلى تقليل المكاسب على المدى الطويل، وهناك مؤشرات على ذلك في كل مكان: وصلت معدلات البطالة في فرنسا ومعدلات البطالة بين الشباب إلى مستويات قياسية، علاوة على تباطؤ النمو بالمقارنة بألمانيا وبريطانيا والولايات المتحدة أو الدول الآسيوية؛ ووصل الإنفاق الحكومي إلى ما يقرب من 57 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي أعلى نسبة في منطقة اليورو، وأعلى من ألمانيا بـ11 نقطة مئوية كاملة. وبالإضافة إلى ذلك، تقوم الحكومة بتعيين 90 موظفا في الخدمة الميدانية لكل 1000 شخص من السكان، مقارنة بـ50 شخصا في ألمانيا. ويمثل الإنفاق الاجتماعي 32 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وهي أعلى نسبة بين البلدان الصناعية؛ كما وصل الدين المحلي إلى أكثر من 90 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. ويجب أن نعرف أن نحو 82 في المائة من الوظائف الجديدة العام الماضي بعقود مؤقتة، مقارنة بـ70 في المائة قبل خمس سنوات، وهذه ليست أعمالا بدوام كامل بالشكل الذي يفتح الباب أمام الطبقة الوسطى الفرنسية، وهو ما يعني أن جيلا كاملا يعيش الآن في ظروف صعبة للغاية. وخلال العام الماضي، احتلت فرنسا المرتبة رقم 28 بين الاقتصادات الـ60 الأكثر تنافسية في العالم، وفقا للمعهد الدولي للتنمية الإدارية في لوزان بسويسرا. وجاءت الولايات المتحدة في المركز الأول، في حين حلت الصين في المرتبة الحادية والعشرين، واليابان في المرتبة الرابعة والعشرين. وفي تصنيف البنك الدولي لـ«سهولة ممارسة أنشطة الأعمال»، جاءت فرنسا في المركز الرابع والثلاثين، في حين جاءت بريطانيا في المرتبة السابعة، وألمانيا في المرتبة العشرين. وفي مدينة أميان بشمال فرنسا، هناك مصنعان لشركة «غوديير» لإطارات السيارات، وتحاول الشركة إغلاق أحدهما (وهي خطوة ليست سهلة في فرنسا) وفصل بعض العمال. وقال كلود ديموف، وهو زعيم نقابي سابق في المصنع «أنا أنتمي للجيل الذي شهد برنامج اليسار. كانت لدينا رؤى للمستقبل وقيم مختلفة، ولكن يتم نسيان كل هذا. لقد انحرف اليسار تماما عن وعوده». * خدمة «نيويورك تايمز»