سآخذكم اليوم بعيدا عن كل شيء، إلى أجمل شيء.. عالم الطفولة. اتخذت لي وقتا أقضيه مع أطفال العائلة الصغار، واكتشفت أن السعادة في كل شيء يقومون به. السر أنهم لا يبحثون عن السعادة، بل هم يمارسونها، وكأن السعادة خلقت طفلة.. من السهل أن أعود طفلا معهم، فما زلت لليوم رغم كل السنين طفلا بامتياز. ما زلت حسّاسا للغاية، ما زلت أبكي في داخلي كطفل أُخذت لعبته، كلمة صغيرة من الممكن أن تنغّص حياتي، وكلمة أصغر من الممكن أن تأخذ بحياتي للسماء. ما زلت أقرأ المجلات المصورة، وما زلت أتابع بشغف أفلام الكرتون.. ولتوي اشتريت كل مؤلفات الكاتب الدنماركي "كريستيان هانز أندرسون" المتخصص في كتابة القصص للأطفال. وقصصه أشهر قصص الأطفال في العالم.. أقرأ لأرنست همنجواي وأرى الطفولة السائدة في معظم ما يكتب، وأقرأ للعقاد وأرى أن حياته يتحكم فيها الصغيرُ الذي خرج من المدرسة في الرابع الابتدائي، وقضى كل حياته ليثبت أنّ ذاك الطفل فوق كل المتعلمين. أقرأ كثيرا لأنيس منصور لأن فيه روح الطفولة القوية، يبدو واضحا من كتابه حول العالم في 200 يوم، قال قصصا لم تحصل ولكنها حصلت في خياله الطفولي فكانت من أفضل ما كتب، رغم حجم الفكر والمعرفة في كتابه "في صالون العقاد كانت لنا أيام" إلا أنه في كثير من الصفحات طفلٌ يرى العقاد أباه .. والأطفال يرون العالم يدور حول آبائهم، تماما كما كان أنيس منصور يرى العقاد. لذا كل كتب أنيس منصور فرحة بجمل قصيرة راقصة كما وصفها عميد الأدب العربي طه حسين. كان الدكتور "يوسف إدريس" طفلا كبيرا بامتياز، مثل الطفل الغيور الذي يريد كل الاهتمام، وربما يحكي لكم يوما كيف كان يحتج ويزعل في أول احتفالات الجنادرية ويرضى كالأطفال.. ولمّا يستغفل نهرو أكبر رؤساء الهند والعالم شهرة، فإنه يخرج ألعاباً احتفظ بها من عشرات السنين ويغرق في اللعب، واشتهر نهرو بأنه ألطف حاكم حكم الهند، بل ألطف قائد في كل العالم في وقته، سعيدا لم تغب عنه الابتسامة رغم حوادثٍ كبار كالمواجهات الهندية الصينية. لكم أحب أن أقرا للفيلسوف الشاعر الإسباني الكبير "جورج سانتيانا"، الذي كان أستاذا في الفلسفة في جامعة هارفرد، وقتها كان العالمُ الفكري يحتفي بكتاباته وندواته ورسائله .. ألقى محاضرة لطلبته وهو بالكاد يقف متهالكا على نفسه وقد لعبت السنون في هيكله. فجأة ترك مقعده، وقال لتلاميذه: "طفشت خلاص.. هذه آخر مرة تروني هنا". رُئي بعد ذلك يسير في شوارع باريس، سريع الخطى، متورد البشرة، حاول تلامذته الذين عرفوه التحدث معه، فأراهم بدلة كرة قدم وقال لا تعطلوني أصدقائي الأطفال في المنتزه ينتظروني حتى أكمل عدد الفريق. تعرفون طبعا الدكتور صاموئيل جونسون وقد تعرضت لحياته وتصرفاته الغريبة مرارا، فقد كان غضوبا لا يعرف الصبر، حتى أنه يتحدى الشباب في فورة أعمارهم الضخام ويتصارع معهم على أمور تافهة ويهزمهم .. لما أنهى قاموسه الكبير الذي خرج للعالم في آخر القرن الثامن عشر، تعجب الناس وسألوه كيف أنجزت الكتاب الضخم وأنت غضوب ملول شرس حتى مع نفسك، وأكثر من يمزق مقالاته قبل أن ينهيها فيما لو أزعجته ناموسة .. قال: "كنت أتدرج في العمل، أذهب ألعب مع أطفال الجيران، ثم أزيد المدة .. حتى صرت أكتب خمس ساعات متواصلة كل يوم. أطفالُنا حولنا نعم نحبهم ولكن لا ننعم بأخذ طاقاتِ السعادة منهم، تعرفون السبب .. لأننا نلعِّبهم لا نلعَب معهم.. مهما كنت في أي مركز في أي ظرف في أي وضع، فقط اجمع الأطفال الصغار كن معهم مثلهم. إن لم تُنه الوقتَ سعيدا ضاحكا.. فابحث عني، ومثل الدكتور صموئيل جونسون.. صارعني!