يشي الانطباع الأولي الذي يتشكل مباشرة بعد الانتهاء من قراءة رواية «رسائل بحار فلسطيني» للروائية السورية مريم محيي الدين بحقيقة طالما ارتبطت بعوالم السرد وتقنياته، وأساليبه غير المتناهية لجهة انفتاح هذا النوع الأدبي على غواية التجديد، وكسر المألوف والسائد، لا لشيء إلا لأن روح الأديب الوثابة لا طاقة لها على المكوث طويلاً في المكان عينه، وكأنها تنأى بنفسها عن إرواء تعطشها للجمال من ذات المنهل مرتين، في عمل أدبي شاءت مبدعته إبقاءه في حال كمون ملهمة لا تعنيها النهايات، بقدر ما تنهمك في محاولة استكشاف عوالم إنسانية دفينة في حياة البحر كما في حياة اليابسة. هذه المرة تتخلى الروائية بمحض إرادتها عن لعب دور السارد، ولا تمنحه بكامل إرادتها لشخصية العمل الرئيسة وحسب، بل إنها تكاد تكتفي بالإصغاء لصوت البحار القادم من المرافئ البعيدة تارة، وقراءة رسائله المشبعة بالذكريات والأحلام تارة أخرى، وبالتدوين في كلتا الحالتين، لكنها تظهر حالاً غير مسبوقة في الإصرار على دفع محدثها إلى الإدمان على البوح والمزيد منه، في كل مرة كانت تستشعر فيها ذلك النوع من التردد المعتاد على مستوى المكاشفة والشفافية في سرد تفاصيل الحكاية، والبيئة التي حملتها وتحمّلتها حين يدخل الاسم والمسمى في سباق محموم على تبوؤ موقع الصدارة، بدءاً من عنوان العمل بحيث ينبثق السؤال حول أصل الحكاية: هل هي حكاية بحار فلسطيني أم حكاية فلسطيني بحار؟ لمن الأولوية للبحر أم للاجئ الفلسطيني؟ أسئلة سرعان ما يتكشّف ما يلفها من غموض من خلال حبكة تنصهر فيها الذات مع الموضوع، وتتدحرج كرة السرد بتلقائية حميمة تميط اللثام عن تقاطعات لا حدود لها، تجمع بين عالم البحر المفعم بالمفاجآت من كل نوع، وتقلبات حياة إنسان لم يسعفه قدره إلا إلى السير في خضم أمواج ذلك البحر البشري الهائج في المخيمات والأحياء الفقيرة المكتظة ببؤس سكانها، ليدفعه إلى الغوص في عوالم بحار حقيقية وموانئ بعيدة تتجاذبها أطراف الدنيا الأربعة. لا وقت لدى الكاتبة يمكن أن تضيّعه، تقفز مريم الملا إلى باطن عالمها وعالم صديقها البحار برشاقة راقصة باليه، ربما لأسباب تتعلق باستشعارها المرهف لضرورات البوح في الزمن الصعب، وفي اللحظة المناسبة ربما على صهوة إحالات تتأرجح بين مفردات الواقع والتاريخ والميثولوجيا في بحر تتوحد أمواجه مع الذات البشرية، ويصبح جزءاً منها، أو العكس تماماً مثلما تتشابك حياة البحار وحياة المؤلفة، خصوصاً في طفولتيهما على صفحات العمل، على رغم تباعدهما المنطقي من حيث المكان والزمان والبيئة، عدا عن العمق الطبقي لكلا الحالين اللتين تشي إحداهما بطفولة سعيدة عاشت تفاصيلها «المؤلفة»، فتاة مفعمة بالحب والتآلف والانسجام والرخاء، في مقابل أخرى عاشها «البحار»، فتى بكل ما فيه من قسوة وحرمان يتشظى بين الحرمان من الوطن والحرمان من الهوية والحرمان من حب يتحوّل إلى هاجس يحيل صاحبه دائماً إلى الحب العذري الأول أيام الصغر. طفولتان وحياتان تسيران جنباً إلى جنب في دروب رسائل إلكترونية، وتتباعدان حدّ الجنون في عالم الواقع المعاش. بؤس وفقر وحرمان هنا، وثراء وهناء وحياة رغيدة ووفرة هناك، حياتان تلتقيان بعد أن شقتا طريقهما إلى الحياة من جديد، تحت ضغط رغبة جامحة لمن عاشهما في ماض يبدو أنه لم يبارح مخيلتهما، وبقي ينبض حياً في وجدانيهما، حيث الخطوات الأولى والحب الأول والاكتشافات الأولى، كلها نقاط التقاء تجمع بين المؤلفة والبحار. شاءت الظروف أن يترعرعا في بيئتين مختلفتين حد التناقض، مخيم ومدينة، على رغم أن ذلك لم يحل دون تكون مشاعر الانتماء إلى المكان، ولوعة التخلي عنه والانتقال بعيداً منه. رسائل بحار فلسطيني.. إنها قصة الإنسان في مهده الأول، وعمل يغوص في عوالم الإنسانية الدفينة، يبحث عن معنى الوجود واكتشاف الذات، ذلك الاكتشاف الذي نتتبع تفاصيله في صفحات العمل مرتين أو بشكل مضاعف، مرة حين تعايشا طفولة المؤلفة وطفولة البحار في الواقع وفي الصغر، وأخرى حين راحا يبوحان به من خلال رسائل البريد الإلكتروني في الكبر في رحلة متواصلة، بحثاً عن معنى الوجود الإنساني في مشهد يغص بالكثير من المشاعر الفياضة والمتضاربة، والدروب الملتوية، وحكايات الطفولة والمراهقة المليئة بالالتباس والرضا والتمرد، والأرواح التائهة التي تبحث عن ملاذ ربما لم تجده إلا في صفحات عمل روائي مثل هذا العمل. ومن الواضح أنه يشكل دعوة صارخة لقراءة بين سطور لا تزال تحتفظ بالكثير من الكلام غير المباح على الأرجح. * إعلامي فلسطيني مقيم في الإمارات.