من الناس من إذا مات طويت ذكراه وغابت سيرته. وقوم آخرون تظل ذكراهم في النفوس وسيرتهم على الألسن كالعبير الزاكي والضياء الغامر؛ من هؤلاء الشيخ عبد المحسن بن عبد الله آل الشيخ الذي انطفأ برحيله بريق نجم من نجوم العلم المتلألئة، حين خطفه المنون ورحل مخلفا سحابات داكنة من الحزن، وخناجر الألم تطعن قلوبنا طعنا، وتفتك بأفئدتنا فتكا، لكنها سنة كونية ونحن على دربهم سائرون. هو الموت ما مِنه مفر ومهرب ... متى حط ذا عن نعشهِ ذاك يركب. الأربعاء غيب الموت رجل علم ودين، رجلا تطبعت أفكاره وأقواله وأفعاله بالرعيل الأول من صحابة هذه الأمة في تواضعه وخلقه وعبادته وجرأته واعتداله واستقلال رأيه، وقوة شخصيته، حتى نال احترام الجميع، وتقديرهم. والموت حق ولكن ليس كل فتى … يبكى عليه إذا يعروه فقدان. كان رحمه الله صاحب همة وطموح، ولم يكن يجذبه شيء غير العلم، فقد كان مشغولا بالقراءة، نهِـما للمطالعة، حريصا على اقتناء الكتب، التي تعينه على الاستزادة من العلم النافع والاجتهاد في الدعوة إلى الله وتعليم الناس الخير. فقد تعلم الدين ودرس القرآن الكريم وحفظه في صغره عن ظهـر قلب، ودرس مبادئ علم التوحيد والعقيدة، وسائر علوم الشريعة، في حلق المشايخ، إلى أن حصل على شهادات علمية ودراسات عالية من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كان حسن الصوت حين يتلو القرآن يبكي ويبكي، قراءته لها أثر في النفوس، وقد وهبه الله صوتا جميلا في تلاوة القرآن وحسن الترتيل. كان من أوائل من التحق بمعهد إمام الدعوة العلمي ثم بكلية الشريعة بالرياض وعمل مدرسا في معهد الرياض العلمي، ثم أصبح مفتشا للمعاهد العلمية، ثم عين مديرا عاما للشؤون الدينية في القوات المسلحة، ودأب على العمل تحت قيادة صاحب السمو الملكي، الأمير سلطان بن عبدالعزيز ــ رحمهم الله جميعا ــ فكان يقدم النصح بما يرضي ربه ودينه، إلى أن أصبح مستشارا للشؤون الدينية. سبعة وخمسين عاما قضاها في خدمة وطنه عسكريا وداعيا ومسؤولا. كان خير أنيس وونيس وجليس تعلمت منه الكثير والكثير حين أجلس إليه أستفيد من نصحه وكلامه، يستنير العقل بعلمه وينشرح الصدر بحديثه كان يمتلك حسن منطق ينتقي عباراته ودرر كلامه انتقاء كأنه بستاني يقطف أجمل الأزهار من حديقة معرفته وعلمه الوارفة فكان لا ينطق بكلِـمٍ إلا بموضعه، كان قليل الكلام، ذا وقار وهيبة، كافيا لسانه عما لا يعنيه، فلم أسمع عنه كلمة قط في أحد، ولم أسمعه يذم أحدا، كان يدعو بالهداية لكل ضال لمن يعرفهم ومن لا يعرفهم ويدعو بالاستقامة لكل معوج. لقد صحبته وعرفته دائم الثناء على الله ثناء الأبرار، متواضعا، محبا للخير، لا تأخذه في الحق لومة لائم. كان رحمة الله عليه منبعا جاريا للفضائل، وبدرا ساريا للشمائل، عالما زاهدا ورعا ورجلا غيورا على الدين كأشد ما تكون الغيرة، قويا في الحق ومهتما بالدعوة إلى الله وتعليم الناس الخير، يكاد ذلك يكون همه الذي لم أعرف له هما غيره. ليس من مات فاستراح بميت إِنما الميت ميت الأحياءِ. ظل رحمه الله حريصا على تعلم الخير وتعليمه إلى آخر عمره، ولا أنسى أنه قبل وفاته تبرع بمكتبته حين لم يقو على القراءة لأنه كان لا يرغب في أن تبقى الكتب على الأرفف بل أراد أن يستفيد منها الناس. لقد غادرتنا بجسدك أيها الشيخ الجليل وستبقى فينا ذكراك وأثرك وعلمك، وعزاؤنا ليس لأبنائك وبناتك وإخوتك وأحفادك بل عزاؤنا فيك نحن أكثر منهم فقد فقدنا فيك شيخا جليلا ورعا بارا، فرحمك الله رحمة الأبرار، وجزاك الله عنا خير ما يجزي به العلماء الربانيين، والأئمة الصادقين الذين يعملون من أجل دينهم وأمتهم، وجمعنا بك في أعلى درجات القرار مع المنعم عليهم، وأعقب علينا وعلى أهلك جميعا خيرا فلا شيء يعوضنا فقدانك سوى سيرتك العطرة وذكراك الطيبة ومحبة خلقه فيك ودعائهم لك .. سائلين الله أن يكرم نزلك ويحسن وفادتك.