ليست الصالونات الأدبية ظاهرة جديدة على الحياة العربية. إذ طالما شرع ارستقراطيو العصرين الأموي والعباسي بيوتهم الفارهة أمام الشعراء والكتاب والمغنين منذ قرون بعيدة. وبدا أن الدواوين والمجالس الأدبية باتت الأماكن الأمثل لقراءة الشعر وغنائه وتبادل الأحاديث حوله في مناخ من العمق والحميمية التي تفتقدها الأسواق المفتوحة كعكاظ والمربد. ولم تكن المرأة المثقفة غائبة عن تلك التقاليد الثقافية والاجتماعية اللافتة حيث يغرد صاحب الأغاني فصولا عن المجلسين الأدبيين المتميزين لكل من سكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة اللتين احتفتا بشعر عمر بن أبي ربيعة كما بغيره من شعراء ذلك الزمن. صحيح أن ظاهرة المجالس والصالونات الثقافية لم تقتصر على العرب وحدهم بل شهد الغرب بدوره ازدهارا لها في القرنين الفائتين، ولكن لها عند العرب مذاقا احتفاليا وفريدا وبخاصة بالنسبة للشعر الذي سميت وحدته النسقية بيتا فيما سمي مجموع نتاج الشاعر ديوانا. وهو أمر بالغ الدلالة لأنه يجعل من أبيات الشعر بيوتا رمزية صالحة للإقامة، ويجعل من الدواوين أماكن لالتقاء الجماعة والتئام عقدها في ضيافة اللغة. قد تكون الميزة الأهم للبيوت والمجالس الثقافية متمثلة في الابتعاد عن النصوص والقصائد الحماسية التي يفرضها استشاري الحشود في المهرجانات والساحات العامة، والإخلاد بدلا من ذلك إلى ما هو حميم وداخلي ومدعاة للتأمل والتواشج الروحي. فكلما قل عدد الحضور اتجهوا نحو المسارة والهمس وكشفوا التخييل، وابتعدوا عن الهياج العاطفي والصراخ الزائد. هكذا استطاعت الصالونات الأدبية في العصور الحديثة أن تشكل إضافة حقيقية إلى الوعي المعرفي والنقدي العربي. ويكفي أن نعود بالذاكرة إلى الصالون الذي أنشأته الكاتبة اللبنانية مي زيادة في القاهرة قبل قرن من الزمن لكي نتيقن من حجم هذه الإضافة التي شكلت علامة فارقة في تاريخ الثقافة العربية.. على أن كل ذلك لا يمنع من الإشارة إلى بعض الأبعاد السلبية التي اكتسبتها هذه الظاهرة في العقود الأخيرة، حيث تحولت بعض البيوتات والمجالس إلى ظاهرة اجتماعية محضة وإلى مطية للبروز والوجاهة وتلميع الذات ودغدغة نرجسيتها. وبدلا من أن تكون اللقاءات مناسبة للمكاشفة وتلاقح الخبرات والتفاعل المعرفي الجاد، بدت على العكس من ذلك مناسبة للردح وإغداق المدائح المجانية وتبادل المجاملات. وبدت الأطعمة والمقبلات الشهية التي تقدم للحضور اكثر مدعاة للحماس وإثارة للعاب من الأطباق الشعرية والأدبية الضحلة التي لا تسمن الروح ولا تغنيها من الجوع. ومن حسن الحظ أن الصورة ليست قاتمة بالكامل وقابلة للتعميم، بل ثمة استثناءات لها موزعة بين هذا البلد أو ذاك من ديار العرب الواسعة. كما أن ما ورد ذكره ليس دعوة لإغلاق الصالونات الأدبية وبيوتات الثقافة ومجالسها بل هو دعوة صادقة لإبعاد هذه المجالس عن التصحر المعرفي وتبادل المدائح وتلميع النرجسيات المتضخمة، وإعادتها إلى نصابها الحقيقي حيث تسطع شمس العقل ولهب المخيلة، وحيث يرمى العرضي جانبا لكي يحتفي بالجوهري وحده.