تثابر كلية اللغات - مدرسة الترجمة، على تأصيل الترجمة من لغة إلى لغة، ولعل أهم ما صدر عن الجامعة (جامعة القديس يوسف) كتاب رنا الحكيم بكداش (لعلها كاتبة سورية) بعنوان «الترجمة واللغات - العلاقة الملتبسة.. وهو في الأصل أطروحة ارتدت اليوم لباس الكتاب وتنضم إلى رفيقاتها في سلسلة «المصدر الهدف» وهي من الأطاريح المشاغبة المشاكسة لأنها تجرأت وقالت، ولو على خفر وتهذيب بظنهما البعض وهناً وضعفاً، وهي بطبيعة الحال أثارت جدلاً، وأخرجت من الأعماق المكدس الجاهز الممل.. وهي بتوازنها المهذب أشارت إلى أن الطرح كي يكون طرحاً، من أهدافه ألا يستيرح، وتأكيداً، ألا يريح، وأن يبقى معلقاً بين أسئلة وتساؤلات وأحكام، فيجني فوراناً شبيهاً بفوران الينابيع، ويؤكد على الوصول إلى حكم مبرم محال، وإلا لكانت الأبحاث والأطاريح برامج معلقة قيلت يوماً ولم يعد إليها بعده زائر، إذاً، أليس من شأن الأطروحة أن تستقطب زواراً جدداً ليعيشوا ضيافة تتخطى اللقمة السريعة المجلدة التي يسخنها من شيء أن يسد جوعاً أو أن يتوهم أنه يتقاسم ملحاً وخبزاً. وعلى ما نتمنى ندخل في فصول عديدة في الكتاب وأهمها ما جاء عن التفكير الغربي إلى اللغة العربية، فالسؤال الجوهري الذي يطرح نفسه في هذا المجال هو: أين التفكير العربي، وأين الاختراعات العلمية والثورات الأدبية في اللغة العربية؟ فلو كان العالم العربي في حالة من الإنتاج الفكري ولاختراع العلمي لانتفت الحاجة إلى التعريب، والوضع العلمي السائد في بعض الدول العربية يبقى دائماً متأخراً عن الركب الحضاري؛ لأنه في الوقت الذي يجري فيه تعريب العلوم، يكون الغرب قد أنتج علوماً جديدة فطوّر تقنيات حديثة، لذا، يبقى تعريب العلوم في الوطن العربي يلحق بكل جديد غربي ونراه متخلفاً عن المواعيد الجيدة لكل تطور يحصل في مختلف الميادين، فهل يعاني الفكر العربي حالة من الجمود أم أن الوضع الحالي غيمة عابرة، ولا بد لمشعل التطور أن يعود إلى كنف الفكر العربي لأنه المقولة: «لكل زمان مكان ورجال» ينطبق تماماً على الواقع العربي، وهذا لا بد من الإقرار أن الإنتاج الفكري والاختراع العلمي لم يعودا ينبعان من الفكر العربي، نعم، اللغة العربية بألف خير وهي تعيش «بثبات ونبات - بحسب التعبير الشائع الذي يعني الاستمرارية والرفاه» ولا تحتاج إلى مدافعين عن كيانها ولا إلى أبواق تنادي بحماية وجودها، يكفيها أنها «اللغة الأم» لكل الشعوب العربية في الرقعة الجغرافية الممتدة من الخليج إلى المحيط وفي هذا دلالة واضحة على قوتها واستمراريتها، واللغة الأم ليست بحاجة لأن تفرض فرضاً ولا لإذن بالانتشار يمنحه إياها «الساهرون على أمنها»، بل تنبثق قوتها من القلب والعواطف وتستمد كيانها من كل المجالات لأنها أولاً وأخيراً اللغة الأصل و«أمومة» اللغة قد تدعوها إلى ترك هامش من الحرية للمستوى الآخر منها أي العامية لأنها لا ترى ضرورة لوجودها في كل الميادين، هي تماماً كالأم التي لا تخنق أولادها لفرط حبها لهم، بل تترك لهم المجال لتكوين شخصيتهم وأفكارهم، ولكن كل هذا تحت إشرافها، وأفضل صورة على هذا المثال هو ما حدث في ساحات البلدان العربية التي شهدت تطورات سياسية أدت إلى تغيير في النظام القائم. (....) والمشكلة ليست باللغة العربية لأنها لغة العقل أولاً وبواسطتها فكر العرب الأوائل مثل الفارابي وابن سينا والخوارزمي وغيرهم وعبروا بها عن نتاجهم الفكري، بل هي في الزمن الرديء الذي شح فيه الإنتاج الفكري، وإن كان النتاج العلمي حالياً منكفئاً بعض الشيء في العالم العربي، فهذا لا يعني إطلاقاً أن اللغة العربية مقصرة أو متخلفة في هذا المجال، بل إنها قادرة على مجاراة العلوم الحديثة كافة، إن توافر الاختراع لأنها فيما مضى كانت قادرة على مواكبة حاجات المفكرين وكان هناك نتاج، إذاً فيها القدرة على التوالد والاشتقاق لكل المصطلحات الجديدة، باختصار هي لغة لديها القدرة على الاستمرارية والحداثة لأنها لغة قائمة على التوالد بالعودة إلى أصلها. ومجاراة اللغة العربية للحداثة لا تقتصر على الكلمات، بل تتعداها إلى التراكيب، من هنا قدرة اللغة على تطويع تراكيبها وتنويع تشكيلات الجملة فتصل إلى أبلغ درجات الكلام وهو البيان أي أسمى درجات في الإفهام، واللغة العربية ثانياً هي لغة دين الإسلام وهي اللغة التي نزل بها القرآن، وفي هذا عامل آخر في ضمانة اللغة العربية، فقراءة القرآن تكون بالعربية والصلاة باللغة العربية، وكل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها يردد الآيات القرآنية بالعربية ويدعو ربه بالعربية، بمعنى آخر، ستبقى اللغة العربية قائمة ومنتشرة ما دام كل فرد مسلم يستخدمها كأداة تواصل وتعبير في أمور الدين أولاً: «إنما أمر الله جل ثناؤه بقراءة القرآن العربي المميز» والمسلم الذي يلتزم بالدين يلتزم بأمر الله كما يلتزم بكتاب الله وهو القرآن الذي يفسر كل الأمور الدنيوية من الزواج والطلاق والإرث والحلال والحرام فلماذا ينادي الغيورون على حماية اللغة العربية؟ ومم يحمونها؟ وممن؟ ولماذا ينشرون الأوهام بأن اللغة العربية في خطر؟ ولماذا لا يرجعون إلى أصول اللغة العربية فينهلون منها كل ما يساعدهم على استعادة دور الريادة، فالعلوم عند العرب أنهم أسسوا لحركة فكرية كان لها الأثر الكبير ليس في تطورهم الفكري فحسب بل في تطور أقطار عديدة حولهم وحتى بعيدة عنهم، وتطور حركة الفكر أنعش اللغة العربية وقوّى انتشارها حيث انتشر العلم فنشطت بالتالي حركة الجدلية التي أفادت العقل واللغة على حد سواء. وعن الصياغة في الجملة العربية، تقدم الكاتبة الشاعر السوري الراحل نزار قباني نموذجاً على الصياغة الموجزة في اللغة العربية: إذ الجملة عنده موجزة إلى أبعد حد، وكأن الشاعر قام بعملية شطب لكل الزيادات فيها من أدوات وصل وأحرف عطف وصفات، وأبقى على تركيبة بسيطة ومنقشفة إلى أبعد حد وتتألف من فعل + فاعل + مفعول به، والشاعر بتركيبته هذه لا يرتكب فعل خيانة باللغة الأم، بل يدخل نسقاً آخر على فعل الكتابة من غير أن يخل بقواعد لغته من حيث الصياغة، والثنائي اللغة شاعراً كان أم كاتباً (أي يكتب بلغتين) لا يستطيع أن يخفي وجهه الأصلي تحت قناع اللغة الثانية، لأن التراكيب قد تفضحه وكلمة فضيحة لا تحمل هنا معنى سلبياً، أو يمكن القول إن شفافية الثنائي اللغة تظهر واضحة في كتاباتهم فيستطيع القارئ أن يستشف اللغة الأم من خلال اللغة الثانية، أو بالعكس يستشف تراكيب اللغة الثانية من خلال صياغة اللغة الأم، كنموذج أمين المعلوف والطيب صالح والحبيب السالمي، فالقارئ يستشف محاولة نزار قباني في تقليد التركيبة الفرنسية في صياغة عربية، ولأن القماش الذي يلتف به يشف من خلال جلده الأصلي ولون بشرته وحتى إن حاول (التخفي) بلباس آخر.. وكأن الثنائي اللغة بشفافيته يؤكد مقولة: اللغة الثانية لباسي واللغة الأم جلدي فكيف يمكن أن أتخلى عنهما، ونزار قباني لا يتنكر للغته الأم بالعكس، يكتب عن موقف أو حالة، يمكن ألا تكون خاصة بإطار معين إلا أنه يكتب عنها باللغة الأم، والحالة الشعرية ممكن أن تكون واحدة عند الشعراء عامة إلا أن طريقة التعبير تختلف بين شاعر وآخر، والاختلاف أكثر ما يظهر عند الشعراء أو الكتاب الثنائي اللغة الذين تختلف درجة الثنائية عندهم باختلاف الحالة أو الموضوع أو ظرف الكتابة.. من هنا لا يمكن التأكيد دوماً أن الشاعر أو الكاتب الثنائي اللغة يلجأ إلى تراكيب اللغة الأم بنسبة معينة وتراكيب اللغة الثانية بنسبة أخرى، ولكن لجوءه إلى هذه التراكيب أو تلك رهن بالحالة التي يكتب عنها، وهذا ما يظهر عند الكاتب التونسي الحبيب السالمي الذي استغل تراكيب اللغة الفرنسية في روايته «روائح ماري كلير» التي صدرت عن دار الآداب في بيروت، لأن الموضوع الذي عالجه دفعه إلى ذلك، وأن التركيبة الفرنسية واضحة في الرواية فلأن المناسبة هي التي ساعدت على ذلك، فالموضوع الذي ينقل تمازج ثقافتين: الشرقية والغربية من خلال طبيعة الحياة الفرنسية، والمرأة الفرنسية في حياة بطل الرواية وكافة مظاهر الحياة الاجتماعية الفرنسية من مأكل ومشرب وطريقة تصرف، كلها أسهمت في اقتراب النص العربي أكثر من التركيبة الفرنسية، إلا أن الكاتب عدّل منهجه في روايته التالية الأخيرة والتركيبة الثنائية تبدو أقلّ ظهوراً في روايته «نساء البساتين».