في يوم الأربعاء، الموافق للثلاثين من نيسان أبريل 2014، أجريت أول انتخابات برلمانية عراقية، منذ انسحاب القوات الأميركية من العراق في نهاية العام 2011. وقد تنافس في هذه الانتخابات 9012 مرشحاً للفوز بمقاعد البرلمان، البالغة 328 مقعداً. وعلى الرغم من استمرار حالة التوتر الأمني، إلا أنه لم تسجل أعمال عنف كبيرة تستهدف الناخبين، على النحو الذي كانت قد توعدت عصابات العنف الأعمى. وبهذه الانتخابات، يكون العراق قد عبر مرحلة ودخل أخرى. الفرق بين المرحلتين سوف يعتمد على حكمة القوى السياسية وقدرتها على تجاوز الذات إلى حيث المصلحة الوطنية العليا. لا بد من التأكيد على أهمية بناء مقاربة دولية متكاملة حول العراق. ومتى تحقق هذا الأمر، يكون المجتمع الدولي قد حقق فعلاً ناجزاً على طريق أمن وسلامة هذا العالم، المعولم في أمنه، بقدر عولمته الاقتصادية والثقافية العاتية وبالطبع، هذه ليست مهمة سهلة، لكنها بالتأكيد ليست مستعصية أو مستحيلة، فالمطلوب أن يقر الجميع بما أفرزته هذه الانتخابات، ويهنئ الخاسر الفائز، ويدعمه في مهمة القيادة والإدارة، ويتجنب وضع الشراك والألغام في طريقه، لأن العراق حينها سيكون وحده الخاسر. إن تجربة السنوات الأربع الماضية قد كشفت، على نحو لا لبس فيه، أن العراق لا يُمكن أن يُدار بمنطق المناكفة والبحث عن السلطة. فهذا المنطق لا يعني سوى تعطيل الحياة العامة وشل المؤسسات. إن العراقيين، ومن هم خارج العراق، يدركون جميعاً أن تعثر الأداء جاء على خلفية المناكفات السياسية، وسعي الجميع لأن يكونوا قادة وزعماء، حتى من دون قاعدة شعبية تحتضنهم. وربما يتحدث العراقيون عن تعثر في الخدمات، وقضايا مختلفة تمس حياتهم اليومية. وهذا أمر بديهي، وهو قد يحدث حتى من دون خلل في الأداء السياسي. وعلى الرغم من ذلك، فإن القضية المركزية بالنسبة للعراق اليوم هي الإمساك بالأمن الداخلي، وعدم السماح للمجاميع الإرهابية بخطف البلاد وترويع العباد. وقد يقول قائل ما هي علاقة ذلك بالعملية السياسية القائمة، واستتباعاً الانتخابات الأخيرة؟. الجواب: إن عدم تماسك الإدارة السياسية، وتشتت مكوناتها بين ولاءات حزبية متضاربة، يعني أن الجميع يُمكنهم التنصل من مسؤولية الإخفاق. وفي الأمن، فإن ذلك يُمثل رافعة مثلى لمجموعات القتل والإجرام، التي تنعشها أجواء التذمر، وتُسعدها خلافات الساسة، متى كانت بادية للعيان. هذه القضية يجب أن تكون حاضرة في مقاربة البناء السياسي القادم، الذي يفترض أن يتجه مركزياً لضرب العابثين بأرواح الناس وأمنهم. ومتى استقام أمن العراق، استقام بناؤه واستعاد دوره، وعاد إلى محيطه القومي، الذي لا يستقيم هو الآخر من دونه. وكما محيطه القومي العام، كذلك جواره الجغرافي المباشر، وفي الطليعة منه الخليج العربي، يصعب تصوّر مستقبل الأمن والاستقرار فيه دون عراق معافى ومستقر. وقد يقول قائل: كثيراً ما سمعنا هذا الحديث. هذا صحيح. ولكن الصحيح أيضاً أن تجربة العقود الماضية أثبت صواب هذا الاستنتاج، ودقته الفائقة. إن النظام الإقليمي لا يُمكن مقاربته سوى من منظور كلي، وهذه من بديهيات السياسة والأمن معاً. إن العراق يجب أن ينطلق من انتخاباته هذه ليصوغ عملية سياسية لا مناكفة فيها، ولا نزاع على المواقع، ولا تقاذف للتهم وتسفيه الآخر. وبعد ذلك، على العراق توجيه الطاقات والمواهب لابتكار الحلول الناجزة، التي يُمكنها التصدي للعنف، ووقف شلال الدم وزهق الأرواح. هذه الحلول، يجب ألا تعيد اختراع العجلة، بل تبحث فيما هو أبعد منها. وما هو أبعد يتمثل في الخطط والأساليب والتكتيك. ويتمثل أيضاً في تطوير القدرات التسليحية، ذات الصلة بمواجهة حرب العصابات، وحرب الأزقة والشوارع، وتأمين المباني والأحياء السكنية. ولابد، على صعيد ثالث، من زيادة منسوب العناصر والقوات المشاركة في عمليات التصدي للعنف، وإشراك أكبر قطاعات ممكنة فيها. ومساهمة القطاعات المختلفة في هذه العمليات لا تُمثل ضرورة أمنية فقط بل سياسية أيضاً، لأن الناس يجب أن يتحملوا مسؤولية الدفاع عن أنفسهم. وعلى صعيد رابع، فإن العراق معني باستنفاذ معطيات بيئته العربية والدولية، والإفادة من خبراتها وإمكاناتها. هذا العراق، الذي نحن بصدده الآن، قد ينجح في السيطرة على حالة الانفلات الأمني التي يعاني منها، وحينها سوف يعود قوة متقدمة لا يستغني العرب عنها. وهذا ما نتمناه. أما إذا لم ينجح العراق في السيطرة على وضعه الأمني فإن الثمن سيكون فادحاً، فهو قد يخسر وحدته الترابية، وسيتحوّل إلى كتلة ملتهبة تعصف بالمنطقة، على نحو دونه كثيراً التجربة اللبنانية. وقد يقود ذلك إلى تدخلات خارجية متضاربة، قد تشعل حرباً إقليمية فوق أشلاء بلاد الرافدين. وكل ما سبق هو أقل ما يُمكن للمرء توقعه، فالنتائج ربما تغدو أكثر كارثية. وعليه، لابد من الإقرار بأن استقرار العراق يُمثل مصلحة قومية ودولية لا جدال فيها. ومن أجل هذه المصلحة، لا بد أن يكون هناك جهد عربي ودولي يتجه لدعم الدولة العراقية في حربها ضد قوى القتل والإرهاب، العابثة بدماء العراقيين وأرواحهم. عربياً، يجب تشكيل وعي عام بحقيقة ما يجري في العراق، وكونه حرباً ضد شعب ودولة، تشنها قوى متطرفة ضالة، لا دين لها ولا مذهب، ولا تمت للقيم الإنسانية بصلة. هذه القوى الضالة لا تعبر سوى عن ذاتها، المنحرفة عن جادة الحق والصراط. وهي تتحرك بدوافع شريرة، ولا تدافع عن أي مكون من مكونات الشعب العراقي، فجميع أبناء هذا الشعب هم اليوم ضحايا لجرائمها. وفي هذا الوعي العربي، الذي يجب أن يتشكل، لا بد أن يكون واضحاً أن قوى التطرف والضلال تسعى جاهدة للعب على الوتر الطائفي، وشحن الغرائز الخاوية، وإثارة الفتن، التي تمثل بالنسبة لها جملاً تمتطيه. كذلك، لا بد من توضيح حقيقة اننا نعيش عصر الإرهاب العابر للأقاليم، الذي ينمو في بيئة ويضرب أخرى، ويشتد عوده في موقع فيطال آخر. إن حاله في ذلك حال الأنابيب المستطرقة. وهذا الواقع، تتضرر منه اليوم الكثير من الدول العربية والإسلامية، وهو قد عكس نفسه بشدة على العراق، وهذه إحدى أسباب أزمته الراهنة. وعلى صعيد رابع، هناك ضرورة للتفريق بين أعمال الإرهاب، وما تخلقه من مشاهد الدم والأشلاء، وبين الدعاوى المطلبية والمناطقية، التي تسعى للإصلاح، وتحقيق التطلعات المشروعة للأهالي في كافة أحيائهم ومدنهم. إن الجماعات الإرهابية لا تعمل على تحقيق تطلعات هؤلاء الناس الطيبين، بل تجعلها أكثر بعداً وأطول أمداً، وقد تكون سبباً في عرقلتها، أو تعطيلها على نحو تام ونهائي. وبعد أن يتكوّن الوعي العربي ويتبلور، لا بد أن تكون هناك حركة دافعة باتجاه إعادة العراق إلى محيطه القومي، فهو صمام أمان لا غنى عنه. من ناحيته، فإن العراق مطالب بطرح الرؤى والتصوّرات التي من شأنها تأكيد اندماجه في وسطه العربي. وعليه أن يكون مبادراً، حاضراً في كافة الأروقة والمحافل، رسمياً وشعبياً، فالعرب حريصون عليه، لكنه هو أكثر من يعلم ما الذي يُمكنهم فعله من أجل سلامته وازدهاره. على صعيد دولي، يُمثل الوقوف إلى جانب العراق، في مواجهته لقوى الإرهاب والتطرف، جزءاً أصيلاً من الفلسفة التي نشأت عليها الأمم المتحدة. والدعم الدولي للعراق، على هذا الصعيد، يُمكن أن يأخذ أشكالاً عدة، إعلامية ودبلوماسية وتسليحية. وبالنسبة للشكل الأخير، أي التسليح، لا بد للدول المصدرة من إمداد الدولة العراقية بما تحتاجه من وسائل كفيلة بالتصدي لموجة العنف الظلامي. إن العراق بحاجة إلى مروحيات هجومية متقدمة، وإلى آليات مدرعة خفيفة، وعدد كبير من نواظير الرؤية الليلية، وأمور أخرى عديدة. إنه بحاجة لسلاح يواجه به الإرهاب في الداخل، ويحمي به حدوده الشاسعة، التي أصبح جزءاً منها بمثابة كتلة نار ملتهبة. وكما الأمن الإقليمي، كذلك الأمن الدولي لا يُمكن تجزئته، أو النظر إليه بمنأى عن نسقه الناظم، فثمة عناصر متداخلة ومؤثرات متبادلة. ومن يتدرب على الأعمال الإرهابية في الصومال قد يقوم بتفجير في العراق أو تونس. ومن يتدرب في مالي قد يفجر في الجزائر أو في مدريد. وهكذا. ومن هنا، لا بد من التأكيد على أهمية بناء مقاربة دولية متكاملة حول العراق. ومتى تحقق هذا الأمر، يكون المجتمع الدولي قد حقق فعلاً ناجزاً على طريق أمن وسلامة هذا العالم، المعولم في أمنه، بقدر عولمته الاقتصادية والثقافية العاتية.