تقولُ لي يا صديقي لا تتوقّفي عن الكتابة.. واستمري، وبين فعل التوقف والاستمرار تسمَّرت يدي، فكلا الفعلين مكبّل بألف مانع داخل أروقة العقل والقلب حتى بدا الطريق أمامهما محكم الإغلاق.. تقول لي اكتبي، فكيف أفعل وأنا أسيرة في وطني.. كبّل عقلي الخوف حتى صار نومه ضرباً من مستحيل؟.. والكتابة يا صديقي للأحرار، لأولئك الذين لا تسجنهم فكرة ولا يتحكم فيهم خوف، ولا يكبلهم وطن.. هؤلاء الذين لا يهتمون لضيق المكان على وسعه أو رحابة السماء على ضيقها.. أنا يا صديقي كنت هناك هاربة، لا أمن يلاحقني ولا قضايا خطرة، لكنها ذكريات عمري العريض الموجعة، أهرب من تلك الغربة التي تلازمني بين أحبائي، من غربتي بعد فقدي لأمي وأبي. غادرت أبحث عن ذلك المجهول الذي لا أعرفه.. من عيون الناس التي أرى فيها اتهامهم لي بالفشل وتعليقاتهم التي تأخذ من روحي الكثير، من انتظار الذي لا يأتي، وخوفي مما أتى، وكل ما كنت أخشاه ووضبت حقيبة سفري من أجله لم أدرك إلا متأخرة أنني قد وضعته في الحقيبة قبل ملابسي وحاجياتي وأغلقت عليه ورحلت! لم أخلعه عن كاهلي وحط ركابه معي أينما حللت، أبحث عن شيء من نور، وضيّ.. أبحث عن الله في رحلتي ومحنتي وغربتي وفقدي للأحبة الراحلين.. أتعلم يا صديقي.. عدت إلى الوطن "مجازاً" لكي أجري عملية جراحية بسيطة خشيت أن أجريها هناك وحدي.. اخترت أهلي لكي أكون إلى جوارهم في تلك الأيام التي لن أحتاج فيها إلا يد تربت بحنان أمي الذي أفتقده.. ولو كنت أعلم ما سيجري ما كنت خطوت تلك الخطوات إلى الوطن.. لكنها كما قال أحدهم.. خطى كُتبت علينا ومَن كُتبت عليه خطى مشاها.. وقد مشيتها يا صديقي دون أن أعلم أنني أسير نحو هلاكي. يوم عمليتي الجراحية البسيطة يا صاحبي كنت أنظر إلى يد طبيب التخدير وأنتظر تلك اللحظة بشغف شديد، تلك اللحظة التي سيفرغ في يدي محقنه المليء بالمخدر لكي أنام، أغيب عن الوعي قليلاً؛ لتظلم الدنيا ظلمة حقيقية مريحة لعقل أنهكه التفكير والسؤال الحائر: لماذا وكيف وحتى متى؟! وحين فعل وشعرت برأسي يثقل ويترنح كان آخر ما سمعته نداءه لمساعده لكي يسند ظهري قبل أن أسقط في دائرة بيضاء عريضة تدور بي دون توقف، وأنا أجاهد هذا الثقل الذي شعرت به في أطرافي ولساني، أجاهد فقط لكي أنادي على الله ليكون معي في محنتي.. أحاول فقط أن أقول يا الله، وأنا في أضعف حالاتي العقلية والجسمانية فلا أستطيع. كنت لا أرغب في شيء إلا الدعاء، كنت أرى الله في تلك اللحظة التي بدأت أستفيق فيها، ولان لساني فجأة حتى سمعت صوتي يقول: يا الله يا رب.. وأنا ألمح وجهَي أمي وأبي أمامي فلا أشعر إلا بدموع عيني تتسابق مع لساني في الدعاء لهما.. أنادي عليهما فلا ألمح إلا ابتسامة أمي، فأناجي الله لهما بالدعاء والرجاء وأبكي.. لم أكن بكامل وعيي، لكنني أذكر كل كلمة قلتها في ذلك الوقت، كنت أحدّث الله بشعور حقيقي لم أعرفه من قبل، شعور بالحب الشديد والامتنان، ويقين لا أدري كيف استقر في قلبي بتلك اللحظة أنه سيجبرني أنه معي لن يتركني، شعور بسكينة لم أعرفها من قبل وطمأنينة أنه هنا في الجوار، رأيت الله على حافة السرير ينظر إليّ برحمة ورضا، وحب، وكنت أخبره في تلك اللحظة أني أحبه، أقسم له به أنّي أحبه حتى سألت نفسي أهي هلوسة الإفاقة؟! بيد أني لم ألتفت طويلاً للسؤال، وحين عدت للمنزل في تلك الليلة ذهبت في نوم عميق حتى اليوم التالي دون فزع في المنتصف أو أرق يمتلك عقلي فيمنع عنه النوم كما كان حالي الأسابيع الماضية.. لست أدري تحديداً ماذا تغيّر.. والواقع أنه لا شيء.. لا شيء بالفعل.. ما زلت قلقة وحالي مقلوب ومحنتي تزيد وطأتها على نفسي كل يوم، لا أدري ماذا يحمل لي الغد ولا كيف سأرتب أموري المعلقة هنا وهناك.. ورغم كل شيء كان هناك شعور بداخل صدري يقول لا تهتمّي.. سيدبرها الله تدبيراً يليق به! قد أعطاني قليلاً من النور، فأضاء عقلي وقلبي وملأني بالسكينة والرضا، فرأيت الله القريب في مِحنتي يا صديقي، ومَن رأى الله كيف يفقده! ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هاف بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.