النسخة: الورقية - دولي الحرب الإعلاميّة التي بدأت مع الأزمة الاوكرانيّة، سلطت الضوء على دور اللغة الروسيّة في أوكرانيا وعدد من الدول الأوروبيّة. ويبدو ان الناطقين باللغة الروسيّة يعيشون في فضاء إعلامي مغاير لنظيره الذي يعيش فيه غيرهم من الأوروبيين. وهذه ظاهرة بارزة في دول البلطيق حيث يدور السؤال اليوم على الجهة التي سيقف معها روس البلطيق إذا وقعت في بلادهم عمليّة روسية مشابهة لضمّ القرم. ولا يخفى أنّ روس البلطيق لديهم كثير من المطالب والعتب على السلطات المحليّة، ولكنهم، الى اليوم، لم يتوسلوا غير الأطر القانونية والدستورية الى بلوغ اهدافهم. وطوال سنوات، بدا ان روسيا لن تتدخل لحماية الروس في الخارج. ولكن بعد حرب جورجيا وضمّ القرم وأحداث شرق اوكرانيا، يطرح سؤال: من التالي؟ الخلاصة الأساسيّة هنا أن الجسر الى تدخل السلطات الروسيّة هو ما قد يبادر اليه روس البلطيق الواقعون تحت سطوة البروباغندا التي تبثها المحطات الرسميّة الروسيّة التي يقبلون على مشاهدتها. وقبل احداث اوكرانيا، كان التلفزيون الروسي في البلطيق يقدم صورة مختلفة تماماً عن وقائع بارزة في تاريخ هذه البلدان، مثل أحداث كانون الثاني(يناير) 1991 في فيلنوس التي يعتبر ضحاياها شهداء الاستقلال. ولكن، في الخريف الماضي، بثت محطة «أن تي في» الروسيّة فيلماً وثائقياً حول تلك الأحداث يقدم سيناريو مختلفاً تماماً، ويرفع اللوم عن السلطات السوفياتيّة في مقتل 14 متظاهراً. ولذا، قررت المحكمة الليتوانية أن توقف بث المحطة ثلاثة أشهر بسبب تضمّن البرنامج معلومات محرفة عن العدوان السوفياتي وإهانة المناضلين من أجل الاستقلال. وتلاه بأيام، قرار مجلس الإعلام في لاتفيا تقييد بث قناة «روسيا» بعد ان عرضت تبريرات ومسوغات غير منطقيّة للعدوان الروسي على اوكرانيا الذي دانته معظم الدول الديموقراطيّة في العالم. ولكن وقف بث القنوات التلفزيونية غير عملي. إذ يمكن للراغبين في متابعة اخبار القناة هذه أو برنامج دميتري كيسيليف الاستفزازي أن يشاهدوها على الإنترنت. وقطع بث القنوات التلفزيونية، ولو لم يخالف القانون، يبدو خطوة من العصر السوفياتي. وعادت إلى التداول فكرة إنشاء محطة بلطيقيّة ناطقة بالروسيّة تقدم معلومات موضوعية ومتوازنة. وبرزت الفكرة هذه في لاتفيا في مطلع نسيان (أبريل) الجاري، ودرس مشروع محطة روسيّة اللسان في دول البلطيق الثلاث تبث مسلسلات روسيّة وأوكرانيّة وبرامج إخبارية بالمعايير الأوروبية. ودارت نقاشات حول مصادر دعم القناة الجديدة، بينما تساءل سياسيون عن جدوى قصر لغة القناة على اللغة الروسيّة. أمّا المشككون فتساءلوا عن الحاجة الملحة الى مثل هذه القناة في وقت تبث «يورونيوز» بعدد من اللغات منها الروسية. ودخل عدد من الصحافيين الفنلنديين على خط النقاش وطالبوا الاتحاد الأوروبي بدعم قناة اوروبيّة روسية اللسان تواجه الإعلام الروسي الذي يهدد القيم الأوروبية والاستقرار حيثما تواجدت الأقلية الروسية. وعليه، انتقلت الفكرة سريعاً من قناة ترفيهية باللغة الروسية إلى قناة أوروبية ترفع لواء قيم اوروبا وحقوق الإنسان. ولكن سرعان ما برزت شكوك طعنت في «ضرورة» تكبير المشروع إلى المستوى الأوروبي، في وقت يختلف وضع الــروس في كل بلد اوروبي، وتتباين ميولهم السياسية من بلد الى آخر. ففي فنلندا، وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا هم في الغالب أولئك الذين غادروا او هربوا من الاتحاد السوفياتي وروسيا. ولكن في لاتفيا القسم الأكبر من الروس ولد هناك قبل انهيار الاتحاد السوفياتي. ويُقترح تسمية القناة الجديدة «صوت أوروبا» وأن تكون منبراً للصحافيين الأوروبيين والروس على حد سواء، وعلى وجه التحديد، لأؤلئك الروس الذين لا يملكون مثل هذه الفرصة في بلدهم الأم. ولكن هذه الفكرة تحمل تحديات كبيرة. إذ يجب أن تكون القناة منبر نقاش حاد يجذب المشاهد، في وقت تتوافر الأخبار العامة بالروسيّة على قناة «يورونيوز». ولا تتقبل سلطات البلطيق انتقادات الصحافيين الأوروبيين فما بالك بانتقادات روس البلطيق. ومن يضمن ألا تصبح هذه القناة الجديدة منبراً لهكذا انتقادات؟ وما هي فرص بث برنامج حول إخفاقات رئيسة ليتوانيا، داليا غرباوسكايته، على الساحة الدوليّة في سياستها الانتقاميّة من روسيا؟ والحق أن مثل هذا البرنامج سيجذب الجمهور الروسي. لكن هل تريد الطبقة الحاكمة في البلطيق ان تموّل قناة توجه انتقادات ضدها؟ والسؤال الآخر، هو لماذا انشاء محطة جديدة وصرف الأموال إذا توافرت اليوم قنوات تعتبر جاذبة للجمهور الليبرالي الروسي الذي يؤمن بالقيم الغربيّة؟ وترمي «صوت أوروبا» إلى جذب شرائح تميل إلى القيم التقليدية المحافظة التي تروّجها القنوات الرسمية الروسية. وهذا هو الجمهور الذي تبرز الحاجة الى استمالته. ولكن ما السبيل الى جذب القيم الليبرالية الأوروبية هذا الجمهور الذي يرتاب في كل ما هو غربي وليبرالي؟ وفي لاتفيا ثمة من دعا الى ألا تهمل القناة الدعاية الروسية والأوكرانية أو الأميركية وأن تشرح البروباغندا الروسية وتحلّل المعلومات التي تبثّها القنوات الروسية وتميّز الصادق من الكاذب من سيل الأخبار. وخلاصة القول ان شرط نجاح القناة الأوروبية «جماهيرياً» في البلطيق وأوروبا وروسيا وأوكرانيا، هو عرضها كل الآراء المنتشرة هناك. ما يعني عملياً، انتقاد بعض السياسات الأوروبية والأميركية. وإلا فإن الحديث عن هذه المحطة اليوم قد لا يعدو كونه دعاية إعلاميّة في انتخابات البرلمان الأوروبي المقبلة. * صحافي، عن موقع «سلون.رو» الروسي، 18/4/2014، إعداد علي شرف الدين