في مدارج السالكين لابن قيم الجوزية رحمه الله 3-422 قولُه: “الفرق بين علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين: كالفرق بين الخبر الصادق والعِيان، وحق اليقين فوق هذا.. وقد مُثِّلَتْ المراتبُ الثلاثُ بمن أخبرك أن عنده عسلاً وأنت لا تشكُّ في صدقه، ثم أراك إياه؛ فازددت يقيناً، ثم ذقت منه؛ فالأول علم اليقين، والثاني عين اليقين، والثالث حق اليقين؛ فَعِلْمُنَا الآن بالجنة والنار علم يقين؛ فإذا أزلفت الجنة في الموقف للمتقين وشاهدها الخلائق وبُرِّزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق: فذلك عين اليقين؛ فإذا أدخل أهل الجنَّةِ الجنَّةَ وأهل النارِ النارَ: فذلك حينئذ حق اليقين”. قال أبو عبدالرحمن: جاءت هذه المراتب في سورتين كريمتين، وإنني إن شاء الله مُبَيِّنٌ معاني اليقين الموصوف فيهما على المعنى الصحيح من غير إغراق في خلاف اللغويين والمفسِّرين؛ فعلم اليقين ورد في قوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} (5) سورة التكاثر؛ فهذا زجر لمن ألهاه التكاثر عن طلب العلم اليقين، وهو علم بخبرٍ صادق بُرهاني عن مُغَيَّب؛ لأن البرهان أظهر العلم به في الدنيا بالاستدلال لا بالعِيان، ثم حصل إدراكه بشيئ من المعرفة المباشرة في الآخرة، وهو الرؤية بقوله تعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} (6) سورة التكاثر، ثم وصف هذه الرؤية بأنها عين اليقين؛ فقال تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} (7) سورة التكاثر، فصح بهذا: أن العلم يتعلق بالخبر الصادق عن أمر مغيَّب بإطلاق وهو المُخْبر عنه، أو بشيئ مُغيَّب من أحوال أمر محسوس.. ولا يوصف العلم ههنا بالمعرفة؛ وإنما المعرفة لما أدركته الحواس؛ فالمعرفة أبلغ من العلم، وهي التي تُنْتج العلم، وهي في عالَمِ الشهادة؛ فالعلم ببراهينه هو عالم الواقع المغيَّب.. والعلم منه رُجْحاني، وليس هو العلم اليقيني؛ وإنما العلم اليقيني ما لا يدفعه شكٌ ألبتة؛ فشرط الإيمان بالله وبما أخبر به لا بد أن يكون بالعلم اليقيني.. إذن علم اليقين من إضافة الموصوف إلى الصفة؛ إذ المآل (العلم اليقين)، والإضافة أبلغ؛ لأن الوصف قد يكون مُشْتركاً، فتقول العلم اليقين، والعلم الراجح؛ وأما الإضافة فقد أخلصت العلم لليقين، وأخلصت العلم للرجحان، وقد يستجدُّ ما يجعل الراجح مرجوحاً، واليقين لا يرد عليه أدنى احتمال يُزحزحه؛ لثبوت برهانه، وانتفاء مُعارِضه.. وأما عين اليقين فليس من إضافة الموصوف إلى الصفة؛ فلا تقول في التأكيد: (العين اليقين)؛ وإنما هو الاعتناء بتقديم التأكيد بالعين إلى اليقين المؤكَّد، ولو قدمت المؤكَّد لاحتجت إلى الضمير؛ فقلتُ: (اليقين عينه)؛ فالعلم اليقيني بالمغيَّب في عالَم الغيب هو المُخبر عنه بعينه؛ فإذا جاء عالم الشهادة أصبح المُخْبَر عنه هو هذا المعروف الآن عينه.. أي هو بعينه ما ورد الخبر عنه في عالم الغيب، وهو اليقين عينُه في عالم الشهادة؛ فهو يقين بالعلم في الدنيا، وهو يقين في الآخرة بالمشاهدة؛ فكان في الحالين هو عين اليقين.. أي الذي دلَّ عليه العلم اليقين، وأدركته المعرفة بالمشاهدة المباشرة يقيناً؛ لأنه يُعْرف بالحس؛ فالمؤمن واكافر سيريان الجنة والجحيم اللذين ورد الخبر عنهما في عالم الغيب ببراهين توجب العلم اليقين، ومن شاء الله تطهيره من عصاة المؤمنين بالعذاب فينال منها أكثر من الرؤية، ومن حَرَّم الله عليه الجنة من الكفار فسيصلاها ويعرفها بكل حواسه الظاهرة والباطنة.. وأما حق اليقين فجاء في قوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} (95) سورة الواقعة. قال أبو عبدالرحمن: لا ريب أن الحق يأتي مجازاً بمعنى اليقين عينه؛ لوقوع المغيَّب كما جاء في الخبر الصادق المُقابَلِ بعلمٍ يقيني؛ فيصحُّ أن تصف الحق باليقين من باب إضافة الموصوف إلى الصفة إذا أردت تأكيد وقوعه؛ فيكون المآل (الحق اليقين)؛ فالمعنى أن هذا الخبر حق سيقع يقيناً.. ووجه المجاز هنا إحلال المُخْبر عنه محل الخبر الموصوف باليقين، ولكن لا يكون هذا التأويل في هذه الآية الكريمة هو الأوعب والأرجح، بل الحق ههنا هو وجود المُخبر عنه بمشاهدة الحواس، وإدراك كل صفات وجوده من الحكمة والرحمة والعدل، وأن النعيم والنار هما الجزاءُ المستحَقُّ العادِل من الرب سبحانه بوعده ووعيده؛ فالنعيم في الآيات الكريمات هو جزاء المؤمنين الذي وعدهم إياه إحساناً منه وفضلاً؛ وبإحسانه جعله حقاً على نفسه سيعرفونه بكل الحواس، ويعرف الكفار الجنة رؤيةً من بعيد، ويطلبون من أهل الجنة أن يُفيضوا عليهم مما رزقهم الله فيدحضون طلبهم؛ لأنه محرَّم عليهم.. والعذاب هو جزاء الكفار الذي توعَّدهم به، وهو حق بلازم النص، فمن لم يؤمن بالعلم اليقين فجزاؤه نقيض جزاء من آمن بالعلم اليقين وعمل بمقتضاه.. والحق ليس بمعنى اليقين دائماً؛ لأن اليقين صفة العلم؛ وإنما الحق هو ما وقع أو سيقع بعلم يقيني؛ ولهذا كان الحق متَنوِّعاً بحسب نوعية وقوعه؛ فالحق وصفٌ لله جلَّ جلاله؛ لأنه واقع مغيَّب عنَّا على صفات الكمال المطلق والتَّنزُّه، ونعلم عنه جلَّ جلاله علم اليقين بخبره عن نفسه القائم يقينه على براهينه القطعية.. ونعلم علم اليقين أنه خلق كل المخلوقات بالحق أي بالحكمة والعلم والإحسان والعدل.. والله يُحِقُّ الحق بكل أنواعه بإظهار الآيات الموجبة اليقين، وإزهاق شُبه العناد، وتبيان منافع الخلق في دنياهم وآخرتهم.. والحق ما كان للفرد بسببٍ مشروع كالإرث والهبة والكسب الحلال؛ فهو حق بحكم الله وإيقاعه له. قال أبو عبدالرحمن: وليس بصحيح تقسيم ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى الذي مَرَّ؛ فتصديقك بخبر رجل صادق أن عنده عسلاً قد يكون علم يقين، وقد يكون علم رجحان، وقد يكون وهماً؛ فإذا أراك إياه صار خبره علم يقين، وصار إيراؤه عين يقين بحسب صِحَّة إدراك حواسك وتفريقها بين العسل وما يشابهه في الرؤية؛ فإذا ذقته فأنت على حال عين اليقين لم تفارقها.. إلا أن إدراك جميع الحواس أبلغ في زيادة المعرفة لا في زيادة ما عرفته بإحدى الحواس.. أي أن ما أدركته من المعرفة بكل الحواس معرفة لما أدركته من كل جهاته، وما أدركته ببعض الحواس إدراك لبعض أحواله.. وليس ذوقك العسل حقَّ اليقين بمعنى اليقين الحقَّ، بل رؤيتك وذوقك نوعُ معرفةٍ بما أخبرك عنه المُخْبِرُ، وتلك المعرفة جعلت الخبر علماً.. والحق هو مضمون الخبر؛ فهذا هو الأصل في معنى الحق.. والعلم اليقين وصف للعلم به مُغَيَّباً، وعين اليقين وجود المُخْبَر عنه بعلم يقيني حال الغيب كما هو عند وجوده في المشاهدة.. وليس ما ذكره ابن قيم الجوزية درجات لليقين، بل هو ثنائية بين اليقين والأمر المتيقَّن؛ فاليقين علم؛ لأنه قاطع، وهو عين اليقين بمعنى اليقين بعينه، لارتفاع أي احتمال مُعْتَدٍّ به.. وهو حق اليقين بمعنى اليقين الحق؛ لمطابقته للمعروف بلا احتمال مُعْتَدٍّ به.. إذن المعروف يقيناً هو عين اليقين.. أي اليقين عينه؛ لأنه المطابق لما اعتقده المتيقِّن.. وهو علم اليقين بمعنى يقين العلم؛ لأنه أعلى مراتب العلم، فهو فوق العلم الرجحاني.. وهو حق اليقين بمعنى اليقين الحق، لأنه وُجِد حَقّاً كما اعتقده المتَيقِّن، فالعلم والعين والحق صفات لليقين، وصفات للأمر المتيقَّن، وليست درجات لهما.. وأما خصوصية الآية من سورة الواقعة فقد مضى تبيانها، والله المستعان، وعليه الاتكال، وإلى لقاء عاجل إن شاء الله. - عفا الله عنه -