ليس عزوفاً بقدر ما هو إعادة تقييم. وليس تقهقراً بقدرما هو إصرار على التقدم ولكن بتقنيات جديدة. وليس شعوراً بالذنب بقدرما هو شعور بالقرف. وليس انسحاباً إلى عوالم التبلد والسلبية بقدرما هو انزواء في مكان هادئ للتفكير وموقع مهادن للتدبير. يجمعهم الحراك العشوائي والشعور الإنساني، وتفرقهم جماعات وانتماءات وقناعات وأيديولوجيات، بعضها من وحي القراءات والثقافات وبعضهم الآخر بسبب غسل الأدمغة والسيطرة على الأفكار والهيمنة على المصائر. المجموعة الشبابية الجالسة في مقهى أنيق في حي الزمالك الراقي ينتمي أفرادها إلى توجهات سياسية مختلفة وأفكار أيديولويجة متراوحة، لكن يجمع بينها قرار جماعي بإغلاق الحسابات التواصلية على الإنترنت أو على الأقل الاكتفاء بالمشاهدة من دون تعليق، والمتابعة من دون تأثير. كل منهم لديه القدرة التامة على الاتصال والتواصل بتغريدة هنا وتدوينة هناك ومناقشة على «واتس آب» أو «فايسبوك» لكن الجميع آثر الاعتكاف العنكبوتي باستثناء التواصل مع الأصدقاء لتنظيم المقابلات والاتصال بالأساتذة لتسليم الواجبات. المجموعة تدرس في السنة النهائية في جامعات خاصة. بعضهم ذوو توجهات يسارية، وبعضهم الآخر ينتمي إلى عائلات «رأسمالية» لكنه على قناعة تامة بالعدالة الاجتماعية، ومنهم من له هوى ناصري، أو انتماء ساداتي، لكن الجميع يتفق على كراهية نظام مبارك. كانوا طلاباً في الفرقة الأولى خلال ثورة يناير 2011. ويومها نزلت المجموعة بكامل عدتها وعلى رغم اختلاف انتماءاتها الى ميدان التحرير. واليوم وبعد مرور ما يزيد على ثلاثة أعوام، قاربوا على التخرج من جامعاتهم حاملين شهادات البكالوريوس بالإضافة إلى فكر جديد يتسم بقدر أكبر من الواقعية. منهم من ينوي انتخاب «السيسي» (وزير الدفاع السابق المشير عبد الفتاح السيسي) رئيساً لأنه خلص مصر من مغبة الإخوان، ومنهم من عقد العزم على التصويت لـ «صباحي (المرشح الرئاسي السيد حمدين صباحي) لتاريخه النضالي وانتمائه الناصري وخلفيته غير العسكرية، ومنهم أيضاً من سيقاطع أو يفكر في إبطال صوته لأن حلم التحرير يصب في خانة مختلفة عما هو متاح. والمتاح لهم حالياً هو أن رؤيتهم للمجتمع في مصر صارت أكثر وضوحاً، وتقييمهم للمشكلات بات أكثر واقعية، وقدرتهم على توقع الأحداث أصبحت أنضج وأثرى. وعلى رغم نغمة إحباط تعبر عن نفسها بين الحين والآخر، ونبرة اكتئاب تعلو أحياناً، إلا أنهم على الأقل يعرفون إن حجم مشكلات مصر يحتاج سنوات للحل وإعادة البناء، وليس مجرد أيام للثورة وقلب النظام. وعلى بعد كيلومترات معدودة، تقبع مجموعات أخرى من شباب مصاب أيضاًً بإحباط واكتئاب، لكنه كبير. بعضهم وجد معنى لحياته في الموت، وبعضهم فقد المعنى من حياته بموت جماعة الإخوان. صحيح إن وسطهم مجموعات تبدو عليها أمارات الانتساب وليس الانتماء، حيث صبية يضحكون ويقفزون فرحاً مع كل زجاجة مولتوف تلقى أو قنبلة غاز يعاد قذفها إلى جانب الشرطة، لكن المنتمين الأصليين رشّدوا كذلك استخداماتهم العنكبوتية بعدما صدرت الأوامر بنقل الجهاد إلى الشوارع بدلاً من الشاشات. منهم من انبهر بثورة يناير وحلم بحياة أفضل تنتشله وأسرته من فقر قبيح، ومنهم من نزل الى التحرير بحثاً عن قيمة مضافة لحياته، لكن الجميع يتفق على تنشئة إما إخوانية مباشرة حيث الأهل والجيران منتمون أو محبون للجماعة، أو غير مباشرة حيث الدق على اوتار الدين في الصغر تحول هوى إخوانياً في الكبر. يحبون أن يروجوا لمقولة إنهم ليسوا إخواناً، لكن الجميع يعرف إنهم وإن لم يكونوا أعضاء في الجماعة، فهم محبون لها، وما أدراك ما يمكن للمحب أن يقدمه. ووسط شعور عارم بحب الجهاد الذي لا يخلو من نشوة، وقناعة كاملة بالغاية الشرعية غير المنزهة عن الأهداف السياسية السلطوية، يؤكد المقربون منهم إنهم في قراراة أنفسهم متشككون في إمكانية عودة الجماعة الى المشهد السياسي. لكن المعنى الذي أضيف إلى حياتهم والقيمة التي أسبغت على يومهم حيث تظاهرات عنيفة ومناهضة الأمن لا سيما بعد ما تم تصوير ذلك على أنه إما جهاد في سبيل الله، أو مقاومة في سبيل التحرر يصعب التخلي عنهما. وبين شباب يعيد التخطيط لمستقبل قد لا يكون راضياً كل الرضا عن مفردات حاضره، وشباب يعيد تعريف حياته بعد ما أصبح لها معنى بفضل كوادر الجماعات الدينية المستخدمة لهم أملاً باستعادة الساحة السياسية، يوجد قطاع ثالث من الشباب ممن عبر مرحلة الإحباط والاكتئاب مما مرت به البلاد - ومازالت - على مدى الأعوام الثلاثة الماضية. أولئك إما يتراوحون بين عائدين إلى ما كانوا يفعلونه قبل ثورة يناير، أو لم يعودوا قادرين على العودة إلى ما كانوا يفعلونه لأن أماكن العمل أغلقت أو تم تسريحهم أو باتت الجمعات أماكن خطرة، أو يمضون بعض الوقت في تقييم ما جرى، أو على الأقل فهمه. فمن تبجيل وتفخيم من قبل الجميع لثورة الشباب التي أشعلها الصغار لإسقاط الفساد والظلم، وما نتج من ذلك من نجومية تلفزيونية لما يعرف بشباب الثورة حيث «الشباب الأنقياء» «الأطهار» «الأبرار» الذين يدين لهم الجميع بالعرفان إلى صب جام الغضب وتوجيه كل اللعنات إلى أولئك «الشباب الجهلاء» «الآثمين» «الملوثين». يشير المشهد الراهن إلى إن شباب مصر لن يعود إلى سابق عهد التقـوقع والسلبية، لكن كثيرين أعلنوا «راحة إجبارية» للتفكر والتدبر وإعادة الحسابات وتقييم الأوضاع، وبعضهم يسير على نهج القضاء على ما تبقى من إسلام سياسي عبر بوابة الجهاد والمقاومة، حيث إعــادة تعريف لتاريخ حديث. مصرشباب