خلال العقود الماضية، ظل التركيز على التخصص العالي باعتباره قنطرة التمكين لقيادة قطاعات ومؤسسات ووزارات خدمية. وبالتأكيد لم يكن هذا بعيدا عن الوعي المجتمعي باعتبار المتخصص أقرب الى فهم واقع عمل منشأة او قطاع او وزارة وبالتالي الأقدر على ادارتها. إلا ان الواقع يذهب الى ان كثيرا من المتخصصين ليسوا بأفضل ممن سواهم من الاداريين السابقين، لا في حقل التسيير ولا في مجال مواجهة المعضلات التي يجب التصدي لها في القطاع ولا في مستوى الانجاز الكلي. فتشوا عن الشخصية القيادية فهي لا تتوافر بسهولة، انها عملة نادرة.. لكنها حتما موجودة.. ولن يكون عنوانها بريق شهادة اكاديمية ولا فصاحة لسان ناقد يضرب هنا وهناك، وليس من مقومات حضورها وهج إعلامي او شبكة علاقات عامة تضفي عليها ما ليس فيها وتصطنع لها قدرات وهمية وكما انه ليس بالضرورة ان يكون كل متخصص في مجال ما، هو الأقدر على القيادة، فليس ايضا من باب الموضوعية ان يكون كل اولئك المتخصصين بمعزل عن حضور قيادي عزز إلى جانب شهاداتهم العليا آثارهم الجيدة في القطاع الذي يديرونه. فهناك مميزون يحملون شهادات عليا في مجالات تخصصية اثبتوا جدارتهم في مناصب ادارية عديدة. إلا أن التخصص العلمي ثمرة تحصيل وجهد بحث وارتقاء أكاديمي.. وليس بالضرورة ان يقوى على انتاج شخصيات قيادية قادرة على مواجهة قضايا كبرى في قطاعات لازالت تبحث عن حلول وعلاج منذ عقود. الشخصية القيادية ليست حاضرة برسم شهادة اكاديمية حتى لو كانت في المجال الاداري. إنها شخصية تتكون وتتبلور عبر مؤثرات وإمكانات شخصية ذاتية وخبرة عملية وحضور ذهني وتصور أوسع لمكان ومنصب القيادة في رأس هرم المنشأة أو الوزارة. لو كانت الأمور سهلة على نحو يجعل التخصص السمة الابرز لمقومات الشخصية الادارية الناجحة في ادارة أي قطاع، لكان من السهل ان نواجه عثرات كل قطاع بتعيين استاذ اكاديمي بارع في مجال له صلة بعمل القطاع، ولكان من السهل اقتناص أساتذة جامعيين متخصصين ليحلوا لنا عقدا كثيرة في قطاعات لازالت تحبو وتواجه كثيرا من العثرات. قد يكون الاداري الناجح خبيرا متخصصا ايضا، إلا ان خبرته الاكاديمية والعلمية ليست هي من جعل منه اداريا ناجحا، بل مقومات أخرى علينا ان نكتشفها قبل ان نعتقد ان كل خبير في مجال تخصصي هو الأقدر على ادارة ذلك القطاع. ولو كانت الادارة علما قادرا على صناعة القادة الافذاذ لأمكن الاكتفاء بما تنتجه الجامعات من هؤلاء الدارسين لعلوم الادارة.. الادارة علم في مستوى معين، يمكن ان يزود الدارس بمعلومات تصقلها التجربة والخبرات.. إلا ان الشخصية القيادية ظلت التباسا في عقول تتصور ان الخبز يجب ان يؤول لخبازه، ومن أقدر من متخصص إداري على ادارة ناجحة لقطاع أو منشأة!! كلما رأيت الاخفاق او التعثر في قطاع او وزارة تداري عجزها بالأرقام والاحصاءات وتتجاهل أخرى، وتركز على الحضور الاعلامي الباذخ.. أدركت ان الشخصيات الادارية القيادية الفذة لا يصنعها بريق الشهادات ولا حضور العلاقات ولا توسم الخبرات، التي ربما كانت على الطريقة اليابانية الساخرة "خبرة سنة مضروبة بعدد سنوات الخدمة الطويلة". لماذا كان الدكتور غازي القصيبي رحمه الله من الاداريين الاكثر نجاحا والشخصيات الوزارية الأكثر حضورا في مسار الانجاز؟ ليس لأنه عمل استاذا في كلية التجارة بجامعة الرياض سابقا.. وليس لأنه متخصص بالعلاقات الدولية.. بل لان شخصيته القيادية ورؤيته للإدارة وقدرته على الاقتحام، وعشقة لأدوار المنُجِّز، والتميز الذهني والحضور الشخصي والموهبة الاكيدة.. هي التي مكنت له من ان يكون وزيرا ناجحا في قطاع الكهرباء والصناعة والصحة وسفيرا مميزا في أكثر من سفارة. في كل موقع شغله كان يعكف على دراسة أكثر الملفات صعوبة في القطاع الذي تولاه. لم يكن رهينة القيادات السابقة بالوزارة من وكلاء ومديري عموم.. كان يحتفظ بالقدرات التي تمكنه من انجاز مشروعه، وكان يحيط نفسه بمستشارين وخبراء يناقشهم ويتدارس معهم قضايا الوزارة وكيفية علاج المشكلات، وعندما تتبلور لديه صورة دقيقة للواقع والعلاج الممكن ..لم يكن هيابا او مترددا حيال اتخاذ قراراته، حتى لو ووجه بكثير من العواصف والرعود فأصحاب المصالح والمنافع والمتضررين من تلك القرارات لن يقفوا مكتوفي الأيدي!! المنصب الوزاري منصب سياسي ايضا، وليس مجرد اداري يهدف لتسيير ما هو قائم أو تحسين شروط ما هو متحقق أو ممكن التحقق وبأقل الكلفة. وعندما يكون القيادي مدركا لدوره ومتفهما لموقعه، يفهم واقع مجتمعه ويقدم قضاياه بأمانة على ما سواها.. فلا يؤثر السلامة حتى ليقبل بتعثر الانجاز أو إحباط الخطط أو تعطيل مشروع. القيادي الناجح قبل ان يمهر سجله بشهادة اعتماد اكاديمية يجب ان تتوافر فيه صفات شخصية تبدو الشرط الأول في مشروع قيادة ناجحة ومقتحمة وجريئة في معالجة القضايا الأكثر أهمية.. على نمط تلك القضايا التي تحفظ في ادراج المسؤولين طلبا للسلامة وحفظا لوهج الكرسي الباذخ. الشخصية القيادية حضور وعي، وفهم عميق لاحتياجات مجتمع، ومحاولة دائبة لتخطي الصعاب لا الاستلام لها. كما الشخصية الادارية الناجحة خبرة ممتدة ومواقع مسؤولية بارزة ترصد القدرات والنتائج.. لا تعصف بإنجاز السابقين، إنما تعزز ما هو فعال وتطور ما هو قائم وتواجه مكامن الخلل بلا تردد. الشخصية القيادية المؤثرة والمنجزة، لا تُسلم للوكلاء او غيرهم من النافذين في أي قطاع ليكونوا حائط صد ضد كل نقد او احتجاج او رفض. انها تتحمل المسؤولية اولا تجاه قراراتها وتدافع عنها وتواجه من يقف في وجهها دفاعا عن مصالح خاصة تتعارض ومصالح مجتمع تتراكم احتياجاته وتزيد متطلباته، وهو المعني الاول بإنجاز الوزارة او القطاع وهو المستهدف الأول لتحسين شروط حياته. الشخصية القيادية الناجحة تلك التي تجمع بين الأمانة والقوة. (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين). قوة في الحق، في مواجهة المحبطات والعثرات فلا استسلام أو تعطيل.. وأمانة تقتضي تضييق وخنق منافذ الفساد لتوجه الامكانات نحو مشروعات تظل رصيدا للناس الذين لازالوا ينتظرون الانجاز الموعود. شخصية أمينة بلا قوة.. إنما هي فضيلة ذاتية شخصية.. فالضعف يشرع باب الفساد الكبير.. فمهما كان المسؤول أمينا في ذاته، ضعيفا في مواجهة غيره، فسيظل الفساد يعبث بالإمكانات والقدرات. وقوي بلا أمانة.. إنما هو إبهار بقوة الشخصية، واستعراض لملامح القوة في ادارة يقصم ظهر منجزها الإخلال بالأمانة، حتى ليصبح ذلك القوي أكثر ضعفا في مواجهة الفاسدين، طالما كان من المرتكبين. فتشوا عن الشخصية القيادية فهي لا تتوافر بسهولة، انها عملة نادرة.. لكنها حتما موجودة.. ولن يكون عنوانها بريق شهادة أكاديمية ولا فصاحة لسان ناقد يضرب هنا وهناك، وليس من مقومات حضورها وهج إعلامي أو شبكة علاقات عامة تضفي عليها ما ليس فيها وتصطنع لها قدرات وهمية..