لم يعد الرقص المعاصر معاصراً، بل بات نمطاً متكرراً بتقنيات متكررة شبعت العين من أساليبه وجمالياته. وهو ما زال غريباً عن الجمهور اللبناني ويشمل فئة محددة ومحصورة من رواد المسرح والمثقفين في بيروت. ويعود ذلك إلى غربته عن محيطه وارتباطه بتقنيات ومواضيع غربية غريبة عن المجتمعات العربية، خصوصاً أن الرقص لم يعد يرتكز على مستوى الأداء ولم يعد لغة عالمية عامة فحسب، بل أصبح يعبر عن الفرد والذات وعن خصوصية مجتمعات تتجلى عبر الأجساد ونوعية حركتها وتاريخها وظروفها وذاكرتها. عرض «فاطمة» الذي عرضته أخيراً في بيروت، كان محاولة للعودة إلى أصول الحركة والرقص أي الطقوس، ولعل الموسيقى الإيقاعية والرقص الحرّ كانا أول أشكال هذا السلوك الطقسي التلقائي الذي تحول، تدريجاً، إلى طقس مقنَّن يؤدّى وفق قواعد مرسومة. وقد ترافق تقنين الطقس وتنظيمه في أطر محدّدة ثابتة مع تنظيم التجربة الدينية للأفراد وضبطها من خلال معتقدات واضحة تؤمن بها الجماعة، ويرى فيها الأفراد تعبيراً عن تجاربهم الدينية الشخصية، ومنها طقس «عاشوراء» الذي يشمل عناصر مسرحية تدخل في صلب سياقه ويحضُر به الجسد بشكل أساسي ويسمو بأدائه الحركي وإيقاعاته. وقد يصل إلى أن ينفلت ويتخطى الطوق الديني والسياسي المرسوم له خلال سياق الطقس. يتمسرح الطقس الشيعي في عرض «فاطمة» أولاً، بالنظر إليه بعين نقدية تُسائل هذا الطقس وتدرس حضور الجسد فيه، ليشكل حالة مسرحية تشمل ممارسات في مراسم العزاء العربي أصبحت طقسية نتيجة تكرارها لفترت طويلة. لنبحث بعدها عن زمن الحركة وفضائها وطرق السرد فيها ومحركها العضوي وانطلاقتها. استعنت بفاطمة «أم كلثوم» التي تشكل جزءاً أساسياً من الذائقة العربية. إن هذا الطقس العزائي المكثف في البيئة التي أنتمي إليها، يحمل في طياته كغيره من الطقوس الدينية وبخاصة طقوس العبور، عناصر حركية لا تنتهي وترتبط بثقافة ممارسيها ومحيطهم الديني السياسي الاجتماعي، وتشكل مادة دسمة وغنية للرقص تؤكد كثافة المواد والمواضيع والكودات في مجتمعاتنا. كما تشكل قاعدة واسعة وصلبة لطرح راقص حركي، قد يصل إلى أن يكشف عن تقنيات جديدة وأساليب مختلفة للرقص المعاصر. أتكلم هنا عن الرقص في المواجهة والتصدي، الرقص الذي يطرح إشكالياته ويُسائل حاضره ومستقبله. الرقص الذي يخترق المجتمعات ليُسائل محرماتها تجاهه، ومفهوم الأخلاق والمسموح والممنوع فيها. لكنّ بحثاً كهذا أو أي بحث في الحركة والرقص، يتطلب سنوات طويلة لندرة الدراسات والمراجع العربية (وحتى المترجمة عن الأجنبية) التي تنظّر وتبحث في الجسد والحركة. ففتح أي بحث حول الرقص في لبنان، يتطلب إعادة ابتكار مواد نظرية بالدرجة الأولى، ومواد حركية وفك كودات الجسد ومفاهيمه بالدرجة الثانية، ليصبح هذا الرقص ابن مجتمعه يحاكي جمهوره ويدخل في الثقافة العامة. فإن التعمق في دراسة الجسد أو إهماله، يؤثر على تشكيل الوعي الشخصي والثقافي الاجتماعي والديني والسياسي لأي حضارة وبصورة غائية تنطلق من الأنطولوجيا مروراً بحصيلة المعرفة التراكمية حول الجسد، وحتى الجانب الأخلاقي الذي يمثّل محور إشكالية إهمال الجسد في المجتمعات العربية. ففي لبنان، استطاع «مهرجان الرقص المعاصر» (بايبود) الوحيد الذي تنظمه «مقامات» منذ 10 سنوات، جذب الجمهور اللبناني إلى ساحة الرقص المعاصر بتجارب أكثرها غربية أسست هذا النوع من الفن في بلدها، إضافة إلى ملتقى «ليمون» لرقص العربي. لكن، في الفترة الأخيرة، تضاءلت مشاركات العروض المحلية في المهرجان البيروتي الوحيد، بدل أن تتضاعف. تلك العروض التي تعاني وتشكو من مشاكل في الإنتاج لا تعدّ. وربما المشكلة ليست بعدم دعم الثقافة والأعمال الفنية، في بلد يطمح مسؤوليه إلى طمر القدرات والطاقات وتغريبها، بل هي تكمن في «عمالقة» المسرح الذين يجمعون التبرعات ويمولون مؤسساتهم الثقافية باسم الشباب ودعم الثقافة، فكأنهم يحتلون المسارح التي تؤجر بأسعار باهظة بعد إلغاء أي مقترح يدعم القدرات الجديدة أو الأعمال المحلية. إنها أنانية امتلاك الساحة الصغيرة التي لا وجود للتنافس فيها حتّى، نظراً إلى ضيق مساحتها ومحدوديتها في مدينة مكتظة فيها أربعة مسارح فقط، ولا أي مساحة عامة.