في جولة شملت عدداً من المدن المغربية، نتوقف في مدينة من مدن الثقافة الشهيرة، هي «أصيلة»، أو «أزايلا» كما يحبّ أهلها أن يطلقوا عليها. مدينة على شواطئ المحيط الأطلسيّ، ذات معالم مدهشة في عمارتها القديمة وزخارفها وقلاعها التي تحرس بوّاباتها الثلاثة: باب البحر، باب حومر، وباب القصبة و... بعمرها البالغ 3600 سنة، وسكّانها الذين يقارب عددهم عشرين ألفاً، وبالأسوار المحيطة بها التي يعود تاريخها إلى عهد البرتغاليين. وفي وسط ساحة ابن خلدون تنتصب منارة «القامرة» وهي برج برتغالي بني في القرن الخامس عشر. بوابات تقود إلى عوالم من الدهشة والانبهار، بيوت وأسواق ومتاهات شديدة العمق، في «زنقات» لا تعرف أين تبدأ وأين تنتهي، وما عليك سوى الاستسلام لجماليات مكوّناتها، العِمارة بتفاصيلها من أقواس وزخرفة طبيعية وتجريديّة، ما يجسّد هُويّة هي مزيج من العربيّ والغربيّ، الفرنسيّ والإسبانيّ والبرتغالي، ما يجعل منها مدينة «سياحية» بأبعاد ثقافية عميقة. ففي هذه الأسواق ينتشر عدد من الفنانين والمشتغلين بالحرف والأشغال اليدوية التي تأخذ من المدينة عناصرها الأولية، من جانب، وتعطيها في المقابل طابع الأصالة والعراقة. وحين نقول «أصيلة»، نسترجع مجموعة من الأسماء والتجارب الثقافية والإبداعية ذات الحضور والتأثير الكبيرين في الحياة الثقافية المغربية، وربما كان أكثرها شهرة على المستوى الرسمي وزير الثقافة السابق المعروف محمد بن عيسى، وهو ابن المدينة وعاشقها، الذي يعتبر بعض مثقفي المدينة أنه هو من أعطاها روحاً جديدة من خلال مهرجانات الثقافة والفنون التي أسّسها في عهد وزارته، ولا تزال مستمرة سنويّاً، وتستقطب الاهتمام والحضور المحليّ والعربيّ وحتّى العالميّ. على المستوى الآخر، غير الرسميّ، نلتقي بمثقفين ومبدعين، شعراء ونقاد وفنانين، يساهمون في الحياة الثقافية على نحو بعيد من الاحتفاليات والبهرجة، ومن أبرز الوجوه الثقافية للمدينة نلتقي الشاعر إدريس علوش (الذي يعيش بين أصيلة والعرائش)، والناقد يحيى بن الوليد صاحب التجربة النقدية المميزة بإصداراته الجادّة، والقاص والأكاديمي عبدالسلام الجباري، والفنان والكاتب جلال الحداد وشقيقه نور الدين الحداد، وفنان المسرح عبدالإله فؤاد. بينما يرى الفنان جلال الحداد (صاحب فندق أزايلا) أن المدينة بدأت ازدهارها في عهد الوزير محمد بن عيسى، ومن خلال المهرجان الدوليّ الشهير، يرى بعضهم أن هذا المهرجان لا يمتّ بأيّ صلة إلى الثقافة العميقة والحقيقية، فهو لم يترك أي أثر في الثقافة المغربية، بل هو مجرّد «فرقعات» إعلامية سرعان ما تنتهي ويختفي تأثيرها. ومن خلال تنقله بين أصيلة والعرائش، ينشط الشاعر إدريس علّوش على غير صعيد، فهو ابتداء أحد عشّاق فلسطين، وذو تجربة مع المقاومة الفلسطينية تبرز في كتاباته وفي نشاطه، كما أنه ينشط في مجال الحفاظ على آثار الشاعر الفرنسيّ جان جُنيه، ومن ضمنها ضريحه في العرائش، هذا الضريح الذي يحرص إدريس على الدعوة الى زيارته وكتابة كلمة في «سجلّ الزوّار» فيه، لتصدر الكلمات لاحقاً في كتاب مصوّر. وإلى ذلك، يبني علّوش تجربته الشعريّة على ثيمات ترتكز في الكثير من جوانبها على علاقته بالشّهادة وله ديوان بعنوان «فارس الشهداء - دار الحرف2007»، وبالمقاومة الفلسطينية تحديداً، وخصوصاً بالجبهة الشعبية وجورج حبش، وهو لا يزال أحد كتّاب مجلة «الهدف» الشهيرة التي كان غسّان كنفاني مؤسّسَها وأهمّ من عمل فيها، ولا يزال علّوش أحد المؤمنين بهذا «الهدف». وله من الدواوين الشعرية «الطفل البحري»، «دفتر الموتى»، «مرثية حذاء»، «فارس الشهداء»، «قفازات بدائية»، «الطفل البحري ثانية»، «قميص الأشلاء»، «آل هؤلاء»، «زغب الأقحوان»، «يد الحكيم»، «دوارة اسطوانة»، و «جهات العدم المشتهى». وعلى صعيد النقد، يجسّد يحيى بن الوليد حالة مختلفة بين النقاد المغاربة، وحتى على المستوى العربي، من حيث منهجه وأدواته والقضايا التي يتناولها. فهذا الناقد المولود في العام 1967، حامل الدكتوراه من كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط العام 2002، هو صاحب مؤلفات متميزة يطوف من خلالها في قضايا متشابكة ومعقدة، بمصطلح منحوت لحسابه الخاص غالباً، بدءاً من «التراث والقراءة»، و «الخطاب النقدي في المغرب»، و «الكتابة والهُويّات القاتلة»، ثم «الوعي المُحلّق: إدوادر سعيد وحال العرب»، و «سلطان التراث وفتنة القراءة»، و «هدأة العقل النقديّ»، وصولاً إلى «تدمير النّسق الكولونياليّ: محمّد شكري والكُتّاب الأجانب». وأخيراً، نطلّ على تجربة الكاتب المبدع والأكاديميّ عبدالسلام الجباري، بمجموعته القصصيّة الوحيدة (على رغم أنه تجاوز سن السبعين، فهو أستاذ لأجيال عدة)، وبكتاب واحد هو «وحين يكون الحُزنُ وحده»، لكنه كتاب تجربة عميقة، كتابٌ عميق وجَسور. وفي مقدمة الكتاب، تأمّلات في مقولات لأرسطو حول الفن حيث يقول الجباري: «إنّ الإبداع في أيّ مجال من مجالات القول يبدأ ويتأسّس ويأخذ انطلاقتَه من الدّهشة». وفي القصة الأولى «أوهام الماء» نقرأ: «هناك أشياء جميلة يجب أن تتكرّر... مثلاً: انفتاحُ الشّهيّة، انفتاحُ السّاقين، انفتاحُ الصّدغين، انفتاحُ الشّفَتَين، انفتاحُ النّفْس بعد كربِها، انفتاحُ الصّدر، انفتاحُ الباب على مِصراعيه، انفتاحُ الفَخذين، انفتاحُ العالم المُتخلّف على العِلم، انفتاحُ العيون وسْطَ اليمّ... الخ. بينما نقرأ في القصة الأخيرة «أطفال خمسة نجوم»، ملامح من المدينة، أماكنها وشخصياتها، الزمن الورديّ، مقهى كولومبو وحانة الخمسة نجوم، والصحف وأدب السجون وفصول من كتاب رايش «الثورة والثورة الجنسية»، وكتابات الطيب تيزيني وأشعار البياتي ومظفر النواب، وشيء من عيون الشعر العربي من طرفة وأبي نواس ونزار قباني، وصولاً إلى شعراء الأرض المحتلة، وكتب الجاحظ والجرجاني، وكتابات شكري وزفزاف والخوري «هذا الثلاثي الذي قدّم خدمة جليلة للإبداع المغربي في ذلك الزمن الورديّ»... كما يقول المؤلف. وفي إطار المسرح، التقينا الفنان والكاتب عبدالإله فؤاد رئيس جمعية اللقاء المسرحي في أصيلة، ومدير مهرجان أصيلة الدولي لمسرح الأطفال، ورئيس المركز العربي الأوروبي لمسرح الطفل والشباب، الذي يساهم بدور فاعل على المستويات، المحلّي والعربي والدولي، ويرى أن مهرجان أصيلة الدولي لمسرح الأطفال يساهم في بلورة مفهوم جديد للشراكة، مؤكداً البعد التواصلي لهذا المهرجان بين الفاعلين في المجال، خصوصاً أنه تظاهرة تدخل في إطار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية في أبعادها المختلفة. وفي خصوص رؤيته إلى المسرح، فهو يرى أنه أداة لفعل اجتماعي مؤثر في الساحة السوسيو/ ثقافية، وهو من المبشّرين الأوائل بهذا الانتقال الحضاري الكبير الذي أطلقته المجتمعات العربية. لذلك يجد المسرح العربي الآن نفسه أمام أسئلة كبرى تتعلق بالهوية والتغيير، بالانفتاح والحوار، بالتقليد والإبداع، بالثابت والمتحول، وبكل الأسئلة المرتبطة بالذات والآخر. وعن سبب تراجع المسرح العربي، فهو وفق فؤاد يرجع بالأساس إلى التكرار والثبات الذي ميّز تعاطينا المسرحي مع الكثير من المواضيع والتقنيات المسرحية، ففي الوقت الذي اندفعت فيه الصورة لتملأ كل فراغات وجودنا، عبر غزو لا يحتمل، تراجع الإبداع المسرحي فكراً ومضموناً، وأصبح مغرقاً في الجانب التقني الآلي، لكن هذا القول لا ينفي وجود تجارب مسرحية متميزة في العالم العربي، بل تجارب وأسماء لها قيمة عالمية كبرى. المغرب