ذكر لي أحد السائقين موقفاً حصل له وقال:كنت أقود سيارة النقل المشحونة بمعدات ثقيلة في بقعة موحشة من طريق صحراوية طويلة، وبعد منتصف الليل بساعة، لم أعد أرى أية أضواء للسيارات المقابلة في الطريق، ولا أسمع سوى صوت شخير زميلي النائم إلى جواري.ولما كنت أقود في حدود السرعة المسموح بها، فقد دهشت عندما شاهدت سيارة المرور تلحق بي، وعندما حاذتني أشار لي السائق بالتوقف، وامتثلت لأمره وتوقفت بجانب الطريق.وعندما نزلت أخبرني أن النور الصغير الخلفي بسيارتي محروق ويجب عليَّ إبداله، فوافقته على ذلك، وساد بيننا قليل من الصمت لم يعكره سوى صوت شخير زميلي، فسألني الرجل: هل معك أحد بالسيارة؟! فقلت له: نعم. قال: أيقظه، وتعالوا عندي، وهذا ما حصل.وعندما وصلنا له، وجدنا أنه قد فرش على الأرض سجادة صغيرة كانت معه، وقال لنا: إن معي ترمساً مملوءً بالشاي، وقد مللت القيادة بمفردي هنا، فهل تتكرمان بمشاركتي، ولو لمدة ربع ساعة، في تناول الشاي؟!وبعد أن تناولناه معاً بالود والحميمية والصداقة بيننا دون سابق إنذار، ولم نعرف اسمه ولم يعرف هو اسمينا حتى الآن، استأنفنا السير ونحن نشعر بالانتعاش ورفع المعنوية.هناك نماذج طيبة كثيرة مثل نموذج جندي المرور ذاك، ولكن أغلب الناس لا يفطنون لهم من كثرة الزحمة والجري و(العك) في هذه الحياة التي لا ترحم.وأصدق مثال على ذلك هو ما قرأته على لسان رجل أوروبي عندما قال:كنت أذهب إلى عملي بواسطة (معدّية نهرية)، عندما لاحظت رجلاً يركب معنا وهو مصاب بعاهة شديدة تكفي لجعله عاجزاً عن الحركة، حتى بمساعدة العصا.وفي كل صباح عندما ترسو المعدية على الشاطئ، يستقبله سائق تاكسي لا يتغير.وصادف في أحد الأيام أن أضرب جميع سائقي التكاسي بالمدينة، فدهشت عندما رأيت الرجل المقعد يركب المعدية كالمعتاد، وكأنه لم يسمع عن إضراب التكاسي.وعندما نزلنا إلى الشاطئ رأيت مشهداً أثلج صدري، حيث إن سائق التاكسي المخلص كان هناك وهو يومئ للراكب الذي ينقله منذ سنوات.والذي حصل أنه لكي لا يخرج على قرار الإضراب، ما كان منه إلاّ أن يأتي بسيارة مدنية عادية لينقل الرجل المقعد.ولا أدري إلى الآن: هل يملك تلك السيارة، أم أنه قد استأجرها خصيصاً لكي لا يترك الرجل؟! ومن وجهة نظري سواء كان (هذا أو ذاك)، لا شك أنه رجل شهم، ولا يقل عنه شهامة رجل المرور، وأنا لا أقل عن الاثنين، ولكن (بالتلامة) لا بالشهامة.