الاحتكام إلى الواقع الفعلي للشاعر لا يقدم البراهين دائماً على أنه ذو نشأة أثيرية عليا. بل على العكس من ذلك في أحيان كثيرة، قد يمدنا بما ينسف تلك الهالة الموغلة في مثاليتها أو لاواقعيتها تماماً.العرب علي جعفر العلاق [نُشر في 2017/05/01، العدد: 10619، ص(14)] ثمـة بيتٌ للشاعر بدويّ الجبل، ظل يتشبث بذاكرتي فترةً طويلة. كان شطره الأول ينأى بالشاعر عن الصفات الأرضية الذميمة: “لا الحقدُ خمرةُ أحزاني ولا الحسدُ”. ولم يكن جزؤه الثاني إلاّ تبريراً جميلاً لما فاض به الشطر الأول:”من جوهر الله صيغ االشاعرُ الغردُ “. ولم أجد نفسي، لحظتها، في حاجة ضاغطة إلى اختبار صحة هذا البيت، كما أجدني اليوم، مع أن المطابقة بين المعنى الشعريّ والمعنى الواقعيّ ليست من مهام الشعر دائماً. لا شك أنه بيت لا اعتراض على معناه، فهو معنى يتعالى على خصلتي الحقد والحسد وأخواتهما من الخصال المجاورة كاللؤم والتباغض والنفاق وتهافت السلوك. ولكن، ألا تكون صورة الشاعر أوالفنان، أو المبدع عامة، نتاجاً لخيالٍ محمومٍ أكثر منها سجلاً لواقع ماثل؟ وهل كان بدويّ الجبل ينظر إلى حقيقة نفسه هو أم إلى صورتها الشعرية كما يتمناها؟ أعني هل ثمة مطابقة بين ما يقترحه الواقع وما تقوله المخيلة، أم أن الاثنين ينطلقان من نافورة واحدة؟ أتحدث هنا عن المبدع الحقيقي حين نراه ملتقىً لغرابة الأطوار وأصالة الموهبة معاً، دون ترصد منه لهذه أو تلك، ودون تشبّه بمن جمع، من السابقين، بين هاتين الخصلتين دون افتعال أومخالفة مقصودة للسائد. مبدعون كثيرون عَلِقتْ سيرهم في أذهان البعض من المحسوبين على الإبداع دون أن يرقى هؤلاء إلى ما في سيرة أولئك من غرابة ونبوغ جميلين. يسعى الشاعر، وهو هنا اختصار للمبدعين عامة، بمخيلة شديدة الشراهة إلى احتضان مرئياته ومسموعاته، وما تستدعيه حواسه الشمية ومجسات اللمس لديه، مسلطاً عليها ما يمتلكه من طاقة اللغة وفتنتها الحية. وقد يتم كل ذلك، في إبداعه، دون أن يحضر في ذهنه ربما هاجس التطابق الوثائقيّ . قد لا يكون الإعلاء من مكانة الشاعر، أحياناً، إلاّ التفاتاً إلى نشأته الضاربة في العمق الأسطوريّ والدينيّ والغرائبيّ أو نبوغه المفاجئ. تلك الأصول التي ترتفع به عن سوية الناس لتضعه في مداراتٍ أثيريةٍ بعيداً عن التراب ومضائق الإكراهات اليومية. ومن جهة أخرى، قد يرتقي هذا المبدع، من خلال إبداعه، إلى تجليات جمالية مذهلة ويظل، مع ذلك، فرداً من الناس بالغ البساطة والحميمية، وكائناً شديد الواقعية. غير أن الاحتكام إلى الواقع الفعلي للشاعر لا يقدم البراهين دائماً على أنه ذو نشأة أثيرية عليا. بل على العكس من ذلك في أحيان كثيرة، قد يمدنا بما ينسف تلك الهالة الموغلة في مثاليتها أو لاواقعيتها تماماً. وكأنّ لهذا الكاتب، أحياناً، صورتين غير متصالحتين على الدوام، صورتين تنبثق إحداهما مما تمور به الحياة من متع أو ضغائن أومكتسبات أو خسارات أيضاً. وهناك صورته الأخرى التي تجسده وهو يقيم في أرضه الخاصة التي لا تقع في الجوار من أرض البشر، بل في فضاءٍ من صنعه، فضاء من لغة مراوغة وشطحات غير واقعية. لا شك أننا نعرف نموذجاً لهذا النمط المنشطر على ذاته من الكتاب. كان يمسك بالليل من بداياته المرتبكة الأولى، ويسير به إلى أماكن سهره المعتادة. كان يبادر دائماً، أثناء صحوه الجميل، إلى تهيئة مائدة جلسائه بنفسه، وتزويدها بالفرح الذي يكفي لتمضية ليل بكامله،غير أن نعمة الصحو لا تدوم عليه طويلاً. ففي أحيان كثيرة ينكسر مزاجه ليتكشف عن شخصية مختلفة تماماً. وتنحدر فتنة الكلام إلى مستويات محزنة. تتراخى أناقة السهر وفتنة الليل، ويبدأ صديقنا شوطاً من التصرفات التي ننسى خلالها وجهه النهاري الوديع. يتواصل إمعانه في السكر حدّ الوقوع على الأرض مرفرفاً كالذبيحة، وحدّ النزول من علياء لغته الأدبية المعهودة إلى لهجة شارعية خرقاء. وقد يعصف به سلوك عدوانيٌ مفاجئ يبلغ حد الاشتباك حتى مع ذاته. وأخيراً، قد لا يجد أصدقاؤه من سبيل إلى إنهاء أمسيتهم تلك إلاّ العودة به محمولاً إلى بيته الواقع في آخر الليل، حيث تبدأ امرأة صابرة محاولاتها لإعادة جسده الذابل إلى الحياة مرة أخرى، وتنظيف روحه مما لحقها من ابتذال. ويحاول الأصدقاء المخذولون تذكّر وجه صاحبهم دون جدوى، فيقررون العودة إلى بيوتهم خائبين، علّهم يحتفظون بما بقيَ من الليل نقيًّا، يصلح للنوم أو التأمل أو نسيان ما حدث. شاعر عراقيعلي جعفر العلاق