«مربعات الأبنودي» ديوان جديد للشاعر عبد الرحمن الأبنودي بتقديم الكاتب الصحافي الشهير محمد حسنين هيكل، وكما هو واضح من العنوان ينتمي الديوان إلى فن «المربع» وهو رباعية عامية بنسق موسيقي خاص ينسب فضل ابتكارها إلى الشاعر ابن عروس الذي تتأرجح المعلومات عنه بين نسبته إلى العصر العثماني وبين التشكيك في وجوده أصلاً. «مربعات الأبنودي» أصدرتها الهيئة المصرية العامة للكتاب اخيرًا بعد النشر اليومي في جريدة «التحرير» وهو بذلك ثاني تجربة شعرية شهيرة تكتب للنشر الدوري في الصحافة، بعد «رباعيات» صلاح جاهين. يقدم الديوان تأريخًا لنضال الأبنودي اليومي ضد حكم الإخوان خلال عام حكمهم الطويل. لكن الأبنودي لم ينضم متأخرًا إلى الثورة، بل كان أحد آبائها؛ إذ أعلن قطيعته مع نظام مبارك خلال السنوات التي استشرى فيها تدخل أسرته ورجال الأعمال في الحكم، وكتب أقذع هجاء للفساد في قصائد فارقة بينها «الاسم المشطوب» و»جمال عبد الناصر». وقد اقتنصت مؤسسة «الأهرام» الصحافية الفرصة للاحتفال بالديوان الجديد وبعيد الميلاد السادس والسبعين للشاعر الذي خالف تعليمات الأطباء وغادر معتزله في ريف الإسماعيلية خصوصًا من أجل المناسبة التي حضرها جمع كبير، وأدخلت هيكل إلى المؤسسة التي لم يدخلها منذ تركه رئاستها، وقاعة الاحتفالات التي رفض من قبل أن يحضر افتتاحها. جاء الاحتفال بمثابة عودة الحياة الى الجسم الثقافي الذي تأذى إلى حد كبير خلال أربع سنوات تزامن فيها موت العديد من كبار المبدعين المصريين مع حراك سياسي يغطي على ما عداه، أما تفاصيل الحفلة فكانت دون المأمول من مناسبة وقفت في المفترق بين أشكال مختلفة من الفعاليات. تصميم القاعة المسرحية فرض شكلاً للاحتفال بين خشبة وجمهور، ما يستدعي حديثًا في الشعر يبرر تحول حفلة ميلاد شخص اسمه عبد الرحمن الأبنودي إلى موضوع لاحتفال عام. ولم يكن هذا من قلة، بل من كثرة الكلام الذي خلع فيه المتحدثون صفة الكبير على المحتفى به وبعضهم على بعض. فات المناسبة أن تكون ندوة نقدية، وفي الوقت نفسه لم يكن تنظيم القاعة يشبه حفلات التوقيع وأعياد الميلاد باختلاطها وزحام المحتفلين حول المحتفل به. وبينما بقي الديوان خارج القاعة، شقت كعكة ميلاد القاعة، صعدت إلى المنصة ومس الأبنودي طرفها بالسكين وانصرفت. مع ذلك ربطت تعليقات الأبنودي الساخرة بين الخشبة والقاعة التي جمعت بين الفرقاء وأخرجت معتزلين من عزلتهم. احتفال يليق بالنجم، ولكن فاتت فرصة قول ما يجب أن يقال عن الشاعر وشعره الذي لم يدرس حتى الآن بوصفه شعرًا؛ أي بوصفه صورًا وأخيلة وبلاغة قادرة على الإيحاء بما لا تتلفظ به القصيدة، بصرف النظر عن فصاحة اللغة أو عاميتها. غير أن الأبنودي يتمتع بفصاحته الخاصة. هو - مع صلاح جاهين وفؤاد حداد - ثالث ثلاثة من شعراء المحكية المصرية فاضت شاعريتهم حتى لا يعود المتلقي يسأل عن نوع اللغة. وكان محمود درويش شديد التقدير لشعر الأبنودي، وكان هذا التقدير أحد روافع صداقة شخصية جمعت بينهما، إلى جانب تشابههما في سمات أخرى؛ فكلاهما نجم يحتشد في أمسياته عشرات الآلاف من المريدين، وكلاهما تعرض شعره لظلم بسبب هذه النجومية ذاتها، فقد بدت قصيدة كل منهما وكأنها من حقائق الوجود الثقافي يجب عدم إنفاق الوقت في نقاشها. وكلاهما لديه نثر أعذب من الشعر، لم يحظ بالانتباه الكافي. وكان من شأن الاحتفال بالأبنودي، أن يرفع بعضًا من حرج التقصير بحق قصيدته وبحق نثره وبحق جهوده في جمع التراث الشعبي، لكن التركيز كان على فروة المحتفى به لا لحمه، على الأغاني من بين الكل. كان من الواضح أن اقتراح المتحدثين جاء من وحي اللحظة، لأن الكلمات الارتجالية القصيرة نسجت كلها على نول الخفة وتبادل التحيات والإشارة إلى تشريف هذا الكاتب الكبير أو ذاك، هذا المستشار للرئيس أو ذاك، إلى أن أخذ الأبنودي لنفسه الكلمة ليختتم. وهنا تقريبًا عرف نفسه وعرفه الجمهور! انتهت حالة «اللاشعر واللانثر». سيطر الأبنودي على الموقف، وتحدث عن الشعر، معلنًا أنه انتهى من جمع عيون الزجل المصري من ثلاثينات القرن العشرين حتى خمسيناته، وألقى نموذجين من هذا الزجل، قبل أن يلقي قصيدته «صيادين النجوم» بإهداء إلى الناشط السياسي أحمد دومة، مطالبًا رئيس الجمهورية بالإفراج الفوري عن السجين. وعلى هذه السخونة السياسية انتهت حفلة سعيدة، لها فضيلة التنبيه إلى الأسباب التي تجعل الندوات والمؤتمرات الثقافية العربية قليلة الجدوى وعاجزة عن تثبيت قيمة أو إعلان موقف. بعض المؤتمرات تنطلق من مجرد نية للاحتفال. وليست كل النيات طيبة؛ فبعض مناسبات التكريم تستهدف تكريم المحتفي بلقطة تذكارية مع المحتفى به، وبعضها يقام لمجرد وجود موازنة، وبعضها من باب الوجاهة أو إبراءً للذمة، ومعظمها لا يختلف عن موالد اولياء الله الصالحين في اكتفائها بالذكر وإنشاد المدائح! شعر