أكد الشاعر نوري الجراح أن سلسلة كتب الرحلات العربية إلى العالم ضمن جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي تهدف إلى بعث واحد من أعرق ألوان الكتابة في الثقافة العربية من خلال تقديم كلاسيكيات أدب الرحلة إلى جانب الكشف عن نصوص مجهولة للكتاب ورحالة عرب ومسلمين جابوا العالم ودونوا يومياتهم وانطباعاتهم، ونقلوا صورا لما شاهدوه وخبروه في أقاليمه القريبة والبعيدة. وقال في الندوة التي أقيمت ضمن فعاليات معرض أبوظبي الدولي للكتاب في دورته الـ 27 لمناقشة كتاب "رحلات أبي دلف.. مسعر مهلهل الخزرجي الينبوعي" الفائز بجائزة ابن بطوطة لتحقيق المخطوطات 2016 ـ 2017 بتحقيق الشاعر والناقد د. شاكر لعيبي: إن جائزة ابن بطوطة تواصل التوقعات المتفائلة لمشروع تنويري عربي يستهدف إحياء الاهتمام بالأدب الجغرافي من خلال تحقيق المخطوطات العربية والإسلامية التي تنتمي إلى أدب الرحلة والأدب الجغرافي بصورة عامة من جهة وتشجيع الأدباء والكتاب العرب على تدوين يومياتهم المعاصرة في السفر وحض الدارسين على الإسهام في تقديم أبحاث ودراسات رفيعة المستوى في أدب الرحلة. وأوضح أن هذه السلسلة أسست وللمرة الأولى لمكتبة عربية مستقلة مؤلفة من نصوص ثرية تكشف همة العربي في ارتياد الآفاق واستعداده للمغامرة من باب نيل المعرفة مقرونة بالمتعة وهي إلى هذا وذلك تغطي المعمورة في أربع جهات الأرض وفي قاراته الخمس وتجمع نشدان الآن وعالمه. وحول كتاب رحلات أبي دلف كشف الجراح أنه لا يعرف لأبي دلف سوى رحلتين أو رسالتين، الرسالة الأولى والرسالة الثانية، واحدة تروي وقائع رحلة إلى الصين والثانية إلى آسيا الوسطى وأرمينيا، لم ينشرا في كتاب واحد يضمهما كليهما، وهذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها باحث بتحقيق للعملين في كتاب استكمالا لجهود سابقة بذلت من قبل الباحثين في حقل الأدب الجغرافي العربي. وأكد الجراح أن الشاعر والناقد العراقي د. شاكر لعيبي رجع إلى كل ما حقق وكل ما تداوله الباحثون في دراساتهم ومؤلفاتهم، ورجع إلى المتون الأصلية للرحلتين كما وردت في المخطوطات وفي متون المظان العربية ليخرج لنا بتحقيق جامع مانع لأثر بالغ الأهمية في المكتبة الجغرافية العربية. لقد بذل لعيبي لأجل ذلك جهدا مضنيا دام سنوات، وقام بهذا العمل بطلب من المركز العربي للأدب الجغرافي ولأجل هذا استحق عن عمله هذا جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة فرع التحقيق. وللعيبي إسهامات مهمة بارزة في الشعر وعلم الاجتماع الفني والنقد الفني التشكيلي، وأخيرا تحقيق مخطوطات الرحالة ومنها الكتاب موضوع الندوة وله أيضا: رحلة ابن فضلان، رحلة المقدسي. قال لعيبي: "عرف لأبي دلف رحلتين اثنتين، أو رسالتين، الرسالة الأولى والرسالة الثانية، لم ينشرا أبدا في كتاب واحد يضمهما كليهما. الرسالة الأولى: وهي رحلة إلى الصين والهند. حققت ونشرت باللغة العربية مرتين: المرة الأولى في كتاب عنوانه "تحقيق المخطوطات بين النظرية والتطبيق لمؤلفيه د. فهمي سعد ود. طال مجذوب عن عالم الكتب، بيروت عام 1993، اعتمادا على المجموع الذي نشره فؤاد سزكين مصورا عن مخطوط مشهد الشهير المرقم 5229 وتتألف من 16 صفحة من 347 - 362 تتضمن الصفحة تسعة عشر سطرا بالخط النسخي. اعتمد المحققان على ما نقله ياقوت الحموي مع اختلافات يسيرة يشيران إليها في هوامشهما التي نبقيها في طبعتنا الحالية للأمانة العلمية، مع الإشارة بالرمز "عط = 1عن الطبعة". والنشرة الثانية للرسالة الأولى قام بها مريزن سعيد مريزن عسيري تحت عنوان "الرسالة الأولى لأبي دلف مسعر بن المهلهل الخزرجي: دراسة وتحقيق"، صدرت عام 1995 عن جامعة أم القرى بالسعودية. وهو تحقيق جاد أيضا إلى حد كبير، رغم أن المحقق يذكر في هامش وضعه في مقدمته أن لا أحد قبله قام بتحقيقها سوى المستشرق شاوتزير في برلين عام 1845 نقلا عن إحدى النسخ المخطوطة لعجائب المخلوقات للقزويني. والأمر يفتقد إلى الدقة، لسببين: الأول أن المحقق لا يحيل بالفعل إلى طبعة الألماني شاوتزير النادرة اليوم ويكتب اسمه بطريقة خاصة مضيفا له الحرف T في جل ملاحظات السيد مريزن وهوامشه، كما يلاحظ القارئ، أنه لا توجد إحالة أو استشهاد بهذه الطبعة القديمة. والآخر أن طبعة دار الكتب العربية عام 1993 تسبق تحقيق مريزن المؤرخ بعام 1995 بسنتين كاملتين في الأقل. يقول الباحث نفسه إنه استند بدوره على مجموعة مشهد المذكورة أعلاه. وإذا كان الباحث الكريم مريزن يعود في عمله، مثل مثله الدكتورين المصريين سالفي الذكر، إلى ياقوت، فإنه يشكك في اعتماد ياقوت على نسخة مشهد ويظن أن ياقوت استند إلى نسخة أخرى، وهي فرضية ندعمها نحن في عملنا الحالي أيضا لكننا لا نستطيع التثبت منها. وعلى الرغم من أن العديد من هوامش وملاحظات هذه الطبعة هي مقاربات مع نص ياقوت المتوفر تحت أيدينا وبإمكاننا نحن أنفسنا العودة إليها، لكننا نعود إلى هوامش مريزين بشأنها تحت الإشارة "مز = مريزين" إنصافا لجهد المحقق وتقديرا لعمله. ونشر فؤاد سزكين عام 1987 رسائل أبي دلف مصورة عن مخطوطة مشهد في مجلد طبع في ألمانيا جوار أعمال ابن الفقيه وابن فضلان، وأعيدت طباعته عام 1994. أما الرسالة الثانية، فهي رحلة إلى آسيا الوسطى وأرمينيا. نشرها وحققها بطرس بولغاكوف وأنس خالدوف، ترجمها وعلق عليها د. محمد منير مرسي وصدرت في مصر عن عالم الكتب القاهرية عام 1970 بعنوان "الرسالة الثانية لأبي دلف" استناداً إلى مجموع مشهد سالف الذكر. لكن هذا العمل العربي الذي يترجم كتابا صادرا في موسكو عام 1960 كان قد سبقه في الحقيقة عمل أساسي آخر قبل خمس سنوات لمينورسكي صدر بالانجليزية عن جامعة القاهرة عام 1955. في البدء قام مينورسكي باستخراج ما في معجم ياقوت الجغرافي من مواد لأبي دلف من أجل أبحاثه الشخصية، وما كتبه من مقالات لصالح دائرة المعارف الإسلامية، كما كتب مقالتين عن "الرسالة الثانية" لأبي دلف. اتسمت طبعة مينورسكي القاهرية على ما يقول بطرس بولغاكوف وأنس خالدوف بكل الدقة والترتيب التي تتسم بها أعمال مينورسكي العديدة. وإن معرفته الواسعة وخبرة عمله الطويل في ميدان الجغرافيا التاريخية لقارة آسيا قد مكنته من عمل تعليق قيم. ويتكون هذا العمل - على حسب الطريقة العامة المتبعة في طبع أو نشر الآثار المكتوبة – من مقدمة والنص العربي والترجمة والتعليق ثم الدليل. والنص بأكمله والترجمة والتعليق مقسمة إلى 72 فقرة. وهناك كثير من الأخطاء في النص الإنجليزي وكذلك بعض الأخطاء والكلمات الساقطة في النص العربي بما يخرج عن الحدود المرعية في الطباعة. وظلت "الرسالة الثانية" مدة طويلة منسيّة ولم تلقَ اهتماماً جدّياً. في بداية الأربعينيات أعدّت في روسيا ترجمة مقتطفاتٍ من المعجم الجغرافي لياقوت تحتوي على معلومات عن أذربيجان والقوقاز بصفة عامة. وعند تحرير هذه الترجمة استخدم كراتشكوفسكي مخطوط مشهد وتوصّل إلى أن جزءاً كبيراً من معلومات ياقوت عن القوقاز مقتبسَة أو مستعارَة من "الرسالة الثانية" لأبي دلف. وقد مكَّن ذلك كراتشكوفسكي من الفهم الواضح للأماكن الصعبة الغامضة في نص ياقوت، وبالتالي مكّنه من تصحيح الترجمات السابقة. وتحدث د. لعيبي عن الحقيقي والخيالي في رحلات أبي دلف، قال "قبل ترجمة وتحليل الألماني الفريد فون رور ساوير للرسالة الأولى عام 1939، كان الاعتقاد لدى بعض العلماء ينفي وقوع رحلة أبي دلف إلى الصين والهند، خلاف ذلك ساند المتخصص الروسي كراتشوفسكي عمل فونساوير بشأن حقيقية حصول الرحلة الأولى، وإن ظل الاعتقاد الشائع يذهب إلى أنها قد بنيت لاحقا انطلاقا من الذاكرة وتضمنت، جوار الحقائق، الكثير من المعلومات التقريبية المضببة بل أمورا خيالية. وبالنسبة للرحلة الثانية يعاود المحققان الروسيان التشكيك في زيارة أبي دلف لبعض الأماكن الموصوفة فهو "قلما عرف شيئا عن ديلم وخوارزم لأنه لم يذكر عنهما معلومات تفصيلية، واكتفى بذكر وصف عام قصير، الأمر المتناقض تماما مع حالات وصفه للأماكن التي يعرفها جيدا. يطلع هذا الشك في زيارة أبي دلف شخصيا لبعض المدن والبلاد من كلماته التي يعبر بها عن وصف معالم هذه الأمكنة مثل: يقولون هناك يوجد". وأضاف "من هنا يمكن الاستنتاج أن أبا دلف كان يستخدم معلومات منقولة عن مصادر ثانوية من مختلف ناقلي الأخبار، وبناء على رسالته الأولى فإن مثل هذا الأمر ليس بمستغرب عنه". وأشار د. لعيبي إلى أن هذه الحجج ليست بكافية للتشكيك في زيارته لبعض الأماكن. فلو أنه وصل بخارى، كما يقول هو نفسه، فلماذا نشكك في مروره على خوارزم التي لا تبعد عنها إلا بأربعمائة وخمسين كيلومترا تقريبا؟ مفازة خوارزم هي التي أثارت في المقام الأول الريبة لدى المحققين الروسيين وكراتشوفسكي. لكن عبارة الرجل شديدة الوضوح: "وسرت منها في مفازة خورازم، فرأيت بها آثارا كثيرة لجماعة من ملوك العرب والعجم، وأشجارها وغياضها كثيرة جدا يقع فيها ثلج". إنه لا يتحدث عن زيارته لمدينة خوارزم الممكنة مع ذلك من جهة، ويتحدث من جهة أخرى عن المفازة التي هي في اللغة: "البرية القفر". إن الجزء الجنوبي من مدينة خوارزم يتاخم صحراء قراقوم. ولا مجال للشك هنا في ما يقول أبو دلف إلا إذا توفر دليل مفحم لا يوجد في الواقع حتى الآن. وأوضح د. لعيبي أن السياق الذي اشتغلت فيه الحضارة الإسلامية لم يستطع أن ينجو بشكل عام من الخرافة، أما على الصعيد الأدبي، ثم السردي في أنواع محددة كأدب الرحلة، فقد كان هناك على الدوام خلط بين الواقعي والغرائبي. يستجلب الأخير استجلابا بناء على شرط ثقافي عام راغب بالتصديق، ومن قبل الأطراف جميعا، منتجي النصوص ومتلقيها، وبطريقة مفرطة أحيانا، مقبولة عرفيا. قال أبو العباس المبرد عن "تكاذيب الأعراب": "تكاذب أعرابيان فقال أحدهما: خرجت مرة على فرس لي فإذا أنا بظلمة شديدة فيممتها حتى وصلت إليها، فإذا قطعة من الليل لم تنتبه فمازلت أحمل بفرسي عليها حتى أنبهتها، فانجابت. فقال الآخر: "لقد رميت ظبيا مرة بسهم فعدل الظبي يمنة، فعدل السهم خلفه، فتياسر الظبي فتياسر السهم خلفه، ثم علا الظبي فعلا السهم خلفه، فانحدر، فانحدر عليه حتى أخذه". نحن هنا في مقام الكذب الذي صار لعبة اجتماعية للمخيلة، بينما نحن في مقام الغرابة والمدهش في أدب الرحلات، وبينهما يقف حدّ واه لكن جوهري: الأول خيال محض، والثاني خيال مسنود بالسرد وبما يمكن أن يكون واقعا بعيدا، شعبا، بلدا، حيوانا، في غير متناول المتلقين الذين يقبلون طواعية بغرابته طالما يخاطب متطلبات المتخيل لديهم. ثمة تواطؤ ثقافي يجد له في الجغرافيا وأدب الرحلة مكانا خصبا. وقال د. لعيبي إن "أنطولوجيا الغرائبي في الأدب الجغرافي العربي" التي يقوم بإنجازها ستبرهن أن غواية الغرائبي لم يسلم منها غالبية الكتاب التراثيين، بدءا من نواخذة السفن والتجار المسافرين في القرن التاسع ثم كبار البلدانيين في القرنين العاشر والحادي عشر، مرورا بالعجائب التي يرويها المسعودي في بعض كتبه وهو شيخ المدققين المحترسين، وليس انتهاء ببقايا من الغرائبي هذا عند البيروني المادي العقلاني في "تحقيق ما للهند". بعض الغرائبية أدهى مما ورد في رسالتي أبي دلف لكنها لم تثر الأسئلة ذاتها التي قيلت بشأن الرجل. من الصعب تفسير ذلك سوى بالزعم أن إيمانه العميق هو نفسه بالغرائب وخواص المعادن الثمينة والخوارق والخيمياء لم يؤخذ بنظر الاعتبار. لم يؤخذ أيضا على محمل الجد نزوعه الشعري وطبيعة سرده الأدبي الانطباعي عن البلدان التي زارها، وحسب على جغرافيا، وطولبت كتاباته لذلك بالصرامة المنهجية والرياضية والتقعيد. وأكد أن ما يشف من رسالتي أبي دلف لا يدل على اختلاق. مساراته معقولة وإن لم يتقيد بتدوينها مثلما وقعت. رحلاته واقعية وجل البلدان التي يذكرها معروفة وفي رقعة شاسعة لكن محددة، وإن قفز نصه أحيانا من مكان لآخر. لم يحسب حساب كذلك لإمكانية وجود نص ضائع كامل من رحلاته، ولم تحلل بعض مفرداته على أنها تصحيف من طرف النساخ. وهنا بعض الجهد الذي تحاوله طبعتنا الحالية". وأضاف د. لعيبي "إذا ما أشرنا إلى التصحيف ومنحناه أهمية استثنائية، فلأنه قد غير، على نحو معين، طريقة قراءة الرحلة، وجعل الشك يحوم حول بعض روايات الرجل، ولأنه يضرب مفاصل أساسية فيها، بدءا من لقب أبي دلف الذي يرد في المخطوط الأصلي "البنازعي" وهو ما يثْبته متن الطبعة المصرية، ويرد لدى ابن النديم "الينبرعى"، وليس انتهاء بعبارات كاملة، لا معنى لها في الحقيقة من دون رؤية تصحيف فيها كعباراته "على ظهره أبيات شعر، رثي بها زيد"، أو قوله "ولهم بيت عبادة على رأس عقبة عظيمة، عليه سد، وفيه أصنامهم من الفيروزج" التي يتوجب قراءة (سد) فيها (بدّ) أي كاهن أو تمثال بوذا، أو عبارته "تتلقاه رحى تصب على ما دونها ثم إلى غيرها" حيث جاءت (تصب) في المخطوط بالنون (نصب). ثم تضرب أسماء البلدان والقبائل مثل "قبيلة النجا" في المخطوط التي قرأها البعض (البجا،) وبلد "بهي" التي تحيرنا، أو قلعة "وريمان" التي لا نعثر عليها رغم وفرة الرقاع التاريخية في المنطقة التي يتحدث عنها. • من هو الرحالة أبو دلف؟ قال د. شاكر لعيبي "يتوجب التنبيه، حيطة، إلى ضرورة التفريق بين أبي دلف العجلي، القاسم بن عيسى بن إدريس، الشاعر والإداري الذي قلده الرشيد أعمال مقاطعة "الجبال" رغم حداثة سنه، فبقي فيها حتى وفاته، وكان قد ولي قبل ذلك إمرة دمشق للمعتصم، وهو صاحب البيتين الشهيرين في مدح علي بن جبلة الذين أغضبا المأمون: إِنما الدنيا أبو دلف بين مغزاه ومحتضره ** فإِذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره وبين رحالتنا أبي دلف مسعر بن مهلهل الخزرجي الينبوعي (390 هـ/ 1000 تقريبا) الشاعر والرحالة العباسي. تجاوز التسعين من عمره متنقلا في البلاد. كان يتردد إلى الصاحب بن عباد فيرتزق منه ويتزود كتبه في أسفاره. صاحب "القصيدة الساسانية" المكرسة لفنون الكدية التي تشتمل على مجموعة كبيرة من الكلمات الشائعة في عامية العصر العباسي. وقد أورد الثعالبي بعضها في "يتيمة الدهر" وأولها: جفون دمعها يجري ** لطول الصد والهجر لا علاقة لاسم القصيدة بأي ميل "سياسي" كما قد يرشح منه أو كما قد نعتقد، لأن القصيدة في الحقيقة تتحدث على لسان الشحاذين وأساليب الكدية التي تحقق حرية المكدي ونجاته: فطبنا نأخذ الأوقات في العسر وفي اليسر فما ننفك من صمي وما نفتر من متر فأحلى ما وجدنا العيش بين الكمد والخمر بنو ساسان تعبير استعاري عن المكدين، والقصيدة تمتدح نمط حياة "بني ساسان" وهم على حد قول ترويتسكي قوم من الصعاليك المتسولين. ومن القصيدة نعرف أن التسول والصعلكة من السمات الأساسية لبني ساسان. وفي ظني منحت للقصيدة هذا الاسم إما بسبب احتشادها بالمفردات الفارسية التي كانت تشكل جزءا من عامية ذلك الوقت، بل حتى الآن في العراق الحديث، وإما لأن المفردة كانت رديفا لغويا شعبيا للكدية في العصر العباسي، إذ هناك العديد من الأعمال الأدبية المسماة بالساسانية، منها المقامة الساسانية للحريري، وفيها يوصي أبو زيد السروجي ابنه بلزوم حرفة بني ساسان في الكدية: "فقد كان مكتوبا على عصا شيخنا ساسان: من طلب جلب. ومن جال نال". ومنها المقامة الساسانية المتأخرة لشهاب الدين الخفاجي. وكذلك القصيدة الساسانية لصفي الدين الحلي. كرس باوسوورث بحثا لها بعنوان "الجانب الآخر من العالم الإسلامي في القرون الوسطى: نصوص عربية عامية، القصيدة الساسانية لأبي دلف وسيف الدين". ينحدر أبو دلف الخزرجي من قبيلة عربية عريقة، فنسبته تعود إلى الخزرج بالمدينة المنورة، أما الينبعي فهو نسبة إلى مدينة ينبع على ساحل البحر الأحمر، ويوصف أيضا بالينبوعي. جاء في "الروض المعطار في خبر الأقطار" للحميري تحت مادة ينبع: "قالوا: ومَن الجار إلى الينبع، وهو الوادي الذي فيه ضياع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أربعون ميلا ومنها أبو دلف الخزرجي الينبعي، ذكره الثعابي في اليتيمة، وكان شاعرا متشيعا، وهو القائل: دار السلام هنيئا بدعوة ابن الرسول جاء النهار وولى ظلام تلك الذحول ما إن رأيت حصانا حماله في النصول قال ذلك للبساسيري القائم بدعوة المستنصر العبيدي خليفة مصر، وذلك سنة خمسين وأربعمائة. ويورد محمد عبدالمنعم خفاجي في كتيبه "أبو دلف الخزرجي، عبقري من ينبع" أن بديع الزمان الهمذاني قد تتلمذ عليه، وأن أبا الفتح الاسكندري الذي ينسب بديع الزمان الهمذاني إليه إنشاء مقاماته إنما هو أبو دلف نفسه. ويعاود التذكير بأن رحلتيه كانتا كتابا واحدا يسمى "عجائب البلدان" حسب القزويني وياقوت وذكرهما بهذا الاسم بروكلمان وكذلك كليمون هوارت عام 1903. محمد الحمامصي