ليست الانتخابات المقبلة في بريطانيا في 8 حزيران (يونيو) عادية أو سائرة. وفي القرن الماضي، نظمت دورات انتخابية كثيرة وغلب عليها التنافس بين اليمين الوسطي، حزب المحافظين، وبين اليسار الوسطي، حزب «العمال». ولكن اليوم التنافس ليس مداره على الوسطية، فالمعركة تدور اليوم بين حزبين يميلان إلى أقصى اليمين وأقصى اليسار. ولم يعد حزب رئيسة الوزراء، تيريزا ماي يشبه ما كان عليه في عهد سلفها ديفيد كاميرون. وليست المسألة فحسب الطعن في أوروبا. فنتائج المعركة تقطع صلات بريطانيا بالاتحاد الأوروبي، وتبتر علاقاتها الاقتصادية والتجارية والقانونية به. وهذا ما لم يسع إليه أي زعيم بريطاني «محافظ» منذ سبعينات القرن الماضي. وحزب المحافظين اليوم أقصى تيار المحافظين «الأخضر» المتحدر من عهد كاميرون، وسطا على خطاب حزب «الاستقلال» البريطاني المعادي للهجرة. وتربع محل حزب طوني بلير العمالي الوسطي حزب جيريمي كوربين اليساري شبه الماركسي الذي يرفع في حملته الانتخابية لواء رفع الضرائب والإنفاق والطعن في الاتحاد الأوروبي والناتو والولايات المتحدة والمنظمات الدولية وحلفاء بريطانيا التاريخيين ومنظمات التجارة. وكوربين يريد أن تتخلى بلاده عن قوة الردع النووي، وهو شارك في مقابلات في التلفزيون الرسمي الروسي والإيراني. ولطالما أيد «الجيش الإرلندي الجمهوري»، حين كانت المنظمة هذه تشن عمليات إرهابية على أهداف بريطانية. وفي اسكتلندا ضرب آخر من الراديكالية (مشاريع متطرفة)، فالحزب الاسكتلندي الوطني قد يفوز بالانتخابات. وسبق أن اقترعت اسكتلندا للبقاء في الاتحاد الأوروبي، وفوز الحزب الاسكتلندي الوطني في الانتخابات قد يطلق عملية استفتاء جديدة على الاستقلال وفرط عقد المملكة المتحدة. وفي وقت تقول ماي إن انفراط عقد بريطانيا العظمى لن يحدث، تعِدُ نيكولا ستورجن (رئيسة وزراء اسكتلندا) الناخبين به. والحق يقال ثمة ما يجمع بين الأحزاب الثلاثة هذه (حزب المحافظين، وحزب العمال، والحزب الاسكتلندي الوطني): إعلان النضال «باسم الشعب» ضد «النخب»- وهذه لا تُعرَّف تعريفاً واضحاً ومحدداً. والأحزاب هذه تمنح المنتسبين إليها نوعاً من هوية جديدة: ففي وسع الناخبين تعريف أنفسهم على أنهم «بريكزيترز» (مؤيدو الانسحاب من الاتحاد الأوروبي)، أو مناضلون طبقيون أو اسكتلنديون، وفي وسع ناخبي الأحزاب الثلاثة القول إنهم ضد الصحافة والأكاديميا والقضاء ولندن والخارج والأسواق المالية وإنكلترا. والأحوال هذه تجيب بالإيجاب على سؤال إذا ما كانت «الشعبوية» استراتيجية سياسية يُتوسل بها إلى فوز أي حزب وأي أيديولوجيا. وعليه يجمع بين اليسار المتطرف، واليمين المتطرف، والإسكتلنديين المتطرفين، دَرَجة واحدة أو أسلوب واحد. ولكن ماذا عن الوسطيين الذين لا ينظرون بعين الرضى إلى حزبي الأغلبية اليوم؟ وماذا عن أصوات الـ48 في المئة الذين صوتوا لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي؟ وما مصير من لم يؤيد بريكزيت، وليس بمناضل طبقي وليس اسكـــتلندياً. وليــس كل هؤلاء من «النخب»، ولكنهم لا يرغبون في المشاريع الشعبوية الثلاثة. والخيار السياسي اليتيم أمامهم هو الحزب الليبرالي الديموقراطي، وهو «الحزب الثالث» في بريطانيا، وفي بعض الأحوال يبلي بلاء حسناً، وسيسعى مثل إيمـــانويل ماكرون في فرنــسا إلى استمالة قاعدة وسطية واسعة. ولكن الليبراليين الديموقراطيين يفتقرون إلى بنية وتمويل يخولانهم التنافس على كل مقاعد البلاد. لذا، قد يختار الوسطيون أهون الشرور: الوفاء لحزبهم أو الامتناع عن التصويت. وإذا أصابت استفتاءات الرأي في توقعاتها، سيجتاح «المحافظون» مقاعد البرلمان من غير أن يحوزوا غالبية الأصوات أو أن يفوزوا بغالبية التصويت الشعبي. فيزعم حينها «البريكزيترز» أنهم حازوا تفويضاً بمعالجة كل المسائل وليس أوروبا فحسب. * مؤرخة، عن «واشنطن بوست» الأميركية، 20/4/2017، إعداد منال نحاس