د. مصطفى الفقيالتدين فطرة طبيعية للإنسان وملاذ أمام ضغوط الحياة ومظالم البشر، وأنا عندما أرى شخصًا صادق التدين مهما كانت ديانته فإنني اطمئن إليه نسبيًا وأتوقع منه أن يراعي الله وأن يخضع لضمير ديني يقظ، وقد لاحظت - على سبيل المثال - أن الرئيس المصري الحالي يصل في تدينه إلى حد التصوف وهو ما يعطيه ثقة في أصعب الظروف، وأنا أشير هنا إلى طبيعة مصرية موروثة تجعل شعب الكنانة مستغرقاً في التدين على مر العصور حتى أن الديانات المصرية القديمة تؤكد ذلك وهي التي قادت (إخناتون) نحو مرفأ التوحيد وجعلت مصر معروفة بين أمم الدنيا وشعوب الأرض بأنها مستودع التدين الخالص والتعلق بالعبادات والطقوس الدينية، وعندما جاء (الإسكندر الأكبر) إلى مصر غازيًا قال له مستشاروه: إن الطريق إلى قلوب المصريين يمر بديانتهم، لذلك اتجه مباشرة إلى معبد (آمون) في (سيوه) ليعلن نفسه ابن الإله تقربًا إلى الشعب المصري، وقد فعل (نابليون) تصرفًا شبيهًا عندما أصدر منشوره الشهير مخاطبًا الشعب المصري قائلًا: «من نابليون عظيم الفرنساوية إلى المصريين... إلخ» متملقاً دينهم متقربًا إلى عقيدتهم، فمفتاح مصر يقبع تاريخيًا في جيوب رجال الدين بدءاً من كهنة المعابد إلى مسوح الرهبان وصولاً إلى أصحاب العمائم من شيوخ الإسلام، ولا يجب أخذ الأمر على إطلاقه، فالتدين شيء ومراقبة الله شيء آخر.ولقد غلب لدى المصريين شعور تاريخي يدفعهم نحو البحث عن الشكل في المعتقد الديني دون الوصول إلى الجوهر، إذ لا يعني زيادة حجم الدين في حياة المصريين أنهم يمثلون بالضرورة شعب الفضيلة والأخلاق والضمير الحي إذ إن الأمر يختلف عن ذلك، فلقد تجاوز التاريخ المصري الالتصاق بذات الله وتربية الضمير الحي انصرافًا إلى الطقوس وتجسيد الشعائر امتداداً لفلسفة فرعونية جعلت الدين محور حضارتها وأحالت المقابر إلى أهرام شامخة يطل منها البشر على الحياة الثانية وفقاً للمعتقد الفرعوني القديم، ولعلي أوضّح ما أريد أن أصل إليه من خلال الملاحظات التالية: أولًا: إن حجم الدين في حياتنا كبير ولكنه حجم الطقوس والشعائر والعبادات ولا يمتد ذلك إلى القيم والأخلاق والمبادئ والمثاليات! نعم إن قوافل الشهداء من أجل مصر تملأ الأجواء عبقاً ونورًا ولكن السواد الأعظم لا يدرك قيمة مصريته ولا يدفعه دينه - مسلمًا أو مسيحيًا - نحو البناء والإعمار والعمل الدؤوب والحرص على الارتقاء بواحد من أغلى الأوطان وأقدم الكيانات البشرية في التاريخ. ثانيًا: لقد أصابني بعض الأرق وخاصمني النوم ذات ليلة مؤخرًا وبدأت أقلب في محطات (التلفاز) فوجدت أن فيها نسبة عالية من المحطات الدينية تبدأ من قراءات سنية إلى صرخات شيعية إلى تراتيل مسيحية والكل مستغرق في مظاهر العبادة دون الغوص في جوهرها أو الالتزام بها، والمثير للدهشة أنك تجد وراء كل منها خلفية سياسية ودوافع ذاتية! وأنها ليست خالصة لوجه الله، وظللت أعاني ساعات الليل من متابعة ممارسات دينية لا تعبّر بحق عن سلطان الله في الأرض ولكنها محاولات لإرضاء النفوس وترطيب المشاعر، وإنني أتمنى من الله سبحانه وتعالى أن يتحول هذا التدين المصري إلى عمل منتج من أجل الله والوطن، فمصر محتاجة إلى جهد كل أبنائها وهي بحق تبحث عن جهود اقتصادية وأبحاث علمية وابتكارات يومية بديلًا لمن يتمسّحون بالدين ويستخدمون النصوص المقدسة تبريرًا لأفعالهم وتحقيقًا لأطماعهم، كما أننا نحتاج إلى عامل مخلص بديلًا لناشط سياسي يملأ الدنيا صياحاً وضجيجاً ولا ينتج لوطنه زراعة أو صناعة أو سياحة أو مصدرًا لرزق الفقراء. ثالثًا: لقد قرأت في صدر شبابي كتابًا عن قدماء المصريين يقول: إن سيطرة فلسفة الحياة بعد الموت على مصر القديمة قد أدت إلى نتاج حضاري هائل ولكنه يتمحور حول فلسفة عميقة تبدو بعيدة عن الإيقاع اليومي للحياة لأن المصري القديم قد شغله إلى حد كبير لغز الموت فتعلّق بالحياة الثانية فبرع في التحنيط وتفنّن في بناء المقابر وشيّد الأهرامات، وأنا أزعم هنا أن الإسلام في مصر له مذاق خاص، فقد أحال المصريون منذ العصر الفاطمي كثيرًا من طقوسه وشعائره إلى مناسبات اجتماعية ومزارات دينية حتى أنني قلت ذات يوم إنني أشعر أن الشعب المصري سنيّ المذهب شيعيّ الهوى، فالطقوس والشكليات لدى الشيعة تتسم بالمبالغة مقارنة ببساطة أهل السنة والجماعة، كما أن الأزهر الشريف - الذي ألفت النظر إلى ضرورة التوقف عن الهجوم الدائم عليه لأن في ذلك مساساً بشخصية مصر الإسلامية في كل الأحوال - قد لعب دورًا محوريًا في تكريس الدور الإسلامي لمصر عبر العصور. إنني أكتب هذه السطور لوجه الله تعالى ومن أجل وطن عرف الديانات الأرضية والسماوية، وطن استقبل اليهودية واحتضن المسيحية وانخرط بعيدا في الإسلام الحنيف، بل لقد عرفنا الإسلام السياسي والإسلام السلفي والإسلام الصوفي، ولعلنا نلوذ بالأخير لكي يكون حصناً ضد التطرف وملاذاً في مواجهة الإرهاب.