الأحداث السياسية العاصفة، التي تأخذ مكانها في منطقة ما من كوكبنا الأرضي، شأنها شأن العواصف والأعاصير العاتية، تهب بلحظة، وتتسبب في إحداث الخراب والفوضى والدمار والموت، ثم لا تلبث أن تنقشع، ليعود الناس إلى سابق عهدهم، بعد أن يعالجوا تركة تلك العواصف والأعاصير، ويكنسوا مخلفاتها. فالقاعدة هي تعاقب المواسم والفصول، وسير الكون بتراتبية معلومة، والعواصف والأعاصير، على هذا هي نشاز وخروج على القوانين المعتادة والمألوفة. هذه المقدمة تقودنا إلى الأحداث العاصفة التي شهدها الوطن العربي، والتي جرى تعريفها مجازا بالربيع العربي، مع أنه لم يكن فيها ما يشي بالعلاقة بموسم البهجة والفرح. كانت حدة الطوفان الذي شهدته المنطقة العربية، إيذانا بأن مرحلته ستكون قصيرة، وأن ما حدث، سواء بالشكل الذي برز فيه، أو في تداعياته كان خارج قوانين التطور، ولم يكن خاضعا للفعل التراكمي. لم يكن ما حدث حاصل فعل تراكمي أو تطور اجتماعي، دليل ذلك أن الذين تجمهروا في الشوارع والميادين، بالمدن الرئيسية التي طالها طوفان "الربيع العربي"، لم يكونوا يحملون أهدافا ولا استراتيجية ولا حاملا اجتماعيا. حضر في الطوفان كل ما هو عفوي، بما تحمله الانطلاقات العفوية، من مخاطر على الأمن والسلم الاجتماعي، وغابت بوصلة التغيير. وجاءت هذه العواصف في لحظة أنهت فيها نظم الاستبداد، مهمتها في تجريف الحركة السياسية، وأي تطلعات نحو تعميم قيم المواطنة. فكانت النتيجة، أن القوى الأكثر تخلفا، في غياهب التاريخ، وهي الفئة الأكثر تماسكا وتنظيما، ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين، تمكنت من القفز إلى السلطة، وتسلم الحكم في معظم الأقطار، التي وصل إليها الطوفان. سقط حكم الإخوان في مصر، واستسلم نظراؤهم في تونس، أمام الضغوط المتنامية للحركة السياسية، التي بلغت من النضج والتوسع حد إجبار الإخوان على قبول دستور، لا تتفق نصوصه مع منطلقاتهم ورؤيتهم لإدارة الدولة والمجتمع. وفي اليمن جرت تسوية سياسية، برعاية خادم الحرمين الشريفين، كان من نتائجها الوصول إلى تسويات سياسية، استندت على القسمة بين القوى السياسية، ورفض منهج الإقصاء، وتكللت بانعقاد حوار وطني، شاركت فيه كل القوى السياسية، ونتج عنه برنامج وطني، يؤمل أن يسهم في إنقاذ اليمن، ونقلها إلى بر الأمان. هذه الأيام، تشهد عدة دول عربية موسم انتخابات رئاسية، كانت الانتخابات الجزائرية هي الأولى بينها، وانتهت بتثبيت الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، في دورة رئاسية رابعة، رغم تقدمه في السن، لتؤكد رغبة الجزائريين في استمرار الاستقرار، ورفضهم الدخول في مغامرات مماثلة، لتلك التي سادت إلى الشرق من حدودهم، في تونس وليبيا ومصر. لقد تعلم الجزائريون الدرس، وكانت تجربتهم مع الإرهاب، الذي استمر أكثر من عقد من الزمن، وتجاوزت ضحاياه أكثر من ربع مليون من البشر. وذلك ما يفسر ميلهم إلى الاستقرار، وقبولهم بمقولة أنه ليس بالإمكان أبدع مما كان. ذلك لا يعني عدم نشوء توترات هنا أو هناك، لكن القانون العام هو التصميم على حماية استقرار الجزائر وأمنها. في لبنان، لم يتوقع أكثر المتفائلين أن يتم تشكيل الحكومة اللبنانية، في ظل الاستقطابات السياسية الحادة، لكن ذلك تحقق، والفضل يعود في ذلك إلى حكمة اللبنانيين، والأصدقاء الذين ساندوهم. ولا شك أن ذلك، سوف تكون له نتائجه الإيجابية على تحقيق الأمن وتراجع العنف في هذا البلد الجميل. ونأمل أن يتم انتخاب الرئيس اللبناني في الأيام القادمة، بذات السلاسة، التي مر بها تشكيل الحكومة. وبالمثل هناك صراع محموم لإجراء انتخابات نيابية، وتكتلات سياسية قوية، تحاول أن تقصي رئيس الوزراء الحالي، نوري المالكي عن السلطة، بما يقضي على الفساد المستشري في أرض السواد، ويجنبه الاصطفافات الطائفية التي طبعت نظام المالكي في السنوات الماضية. موسم الانتخابات الرئاسية في مصر، دخل هو الآخر دورة جديدة، بعد تقديم المرشح المشير عبدالفتاح السيسي والسيد حمدين صباحي، أوراق ترشيحهما للموقع الرئاسي للجنة المنوط بها الإشراف على الانتخابات. وقد أقفلت الترشيحات بمرشحين رئاسيين اثنين، ستكون رئاسة الدولة من نصيب أحدهما. وفي السودان هناك دعوة لحوار وطني، استجاب لها البعض ورفضها آخرون، لكن التطورات تعكس، بغض النظر عن النتائج، رغبة النظام في تحقيق المصالحة مع شعبه. يأتي ذلك وسط تصاعد الحديث، عن دعوات جنوبية، لإلغاء كيانية دولتهم الوليدة، والعودة مرة أخرى للاندماج، بصيغ فيدرالية مع الخرطوم، بعد أن تأكد فشل دولة الجنوب، التي استقلت قبل سنوات قليلة على الإيفاء بالاستحقاقات التي يتوقعها شعب الجنوب، جراء الانفصال عن المركز في العاصمة الخرطوم. أما في ليبيا، البلد الثالث في الترتيب، من حيث سقوط رأس نظام الحكم فيه، فإن هناك حالة غضب تجري بين أفراد الشعب الليبي، جراء هيمنة جماعة الإخوان، على أهم محاور الحكم. وقد تزامن ذلك مع تصاعد في نشاط القوى المتطرفة التابعة لتنظيم القاعدة، وتسعير النزعات القبلية، والدعوة إلى انفصال ليبيا، وتقسيمها إلى ولايات، كما كانت قبل الاستقلال، وأثناء سيطرة الاستعمار الإيطالي. والمتوقع أن تؤدي حالتا الاحتقان والغضب في ليبيا، إلى يقظة وطنية، وانتفاضة شعبية، يكون من نتائجها، إسقاط جماعة الإخوان، وعودة ليبيا موحدة، لكل الليبيين, وتحقيق الأمن والاستقرار في ربوعها. هكذا يعود التوازن للبلدان التي شهدت عواصف "الربيع"، ويصبح نشدان الأمن والسلام، هو الهدف الأثير لجميع الناس. وليتأكد مجددا القانون الطبيعي، أن العواصف والأعاصير السياسية، هي نشاز، وحالات استثناء، وليس بعدها سوى تكنيس مخلفاتها، ومواصلة السير في دروب الحياة، بالتراتبية المعهودة. ذلك لا يعني، السكون والجمود، ولكنه التسليم بقانون التراكم، وأن التحولات الكبرى ليست عبثية، ولكنها لحظة تحول في منجز إنساني، بلغ مداه وحان قطاف حصاده.