اللغة تمثل الأمة.. أية أمة.. وهي وجه الحضارة وواجهتها.. لأنها صانعة هذه الحضارة.. علما وفكرا وإبداعا وأدبا وفنا.. هي كل شيء في سلم التراتبية الحضارية.. وبغير اللغة لا يمكن أن تبني مجدا، ولا يمكن أن تقيم مجتمعا.. له هويته وشخصيته.. وبالمقابل، لا يمكن أن نؤسس لحضارة أمة وثقافة مجتمع في غياب الوعي بأهمية القيام بدور حقيقي وفاعل ترتكز عليه دعائم وأسس النهضة الاجتماعية والثقافية والعلمية في الأمة. اليوم، وفي ظل سطوة ثقافة الصورة.. كيف يمكن أن نحافظ على اللغة العربية.. ليس الحفاظ عليها فقط.. بل تطويرها وإخراجها من القوالب القديمة واللغة القاموسية. ولكن قبل الدعوة إلى الحفاظ على اللغة العربية من حيث كونها وعاء حضاريا وثقافيا لفكر وإبداع وإنتاج الأمة.. ينبغي أن نعيد النظر في اللغة العربية، وهل هي لغة متطورة ومواكبة للعصر.. وبوصفها لسانا معبرا عن تاريخ وهوية. وما حدث في الشعر الحديث منذ بداية الأربعينيات الميلادية على يد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبدالوهاب البياتي وآخرين ثورة في الشعر العربي، وانقلاب على ما كان سائدا في الخطاب الشعري العربي في سياقه التاريخي، وليس نقلا وتقليدا لما سبق في الكتابة الشعرية. أصل إلى مسألة مهمة، وهي المتعلقة بمسألة الإبداع في اللغة وفي الشعر، لأذهب إلى أن الإبداع ليس مرتبطا بالفصحى.. وليس بالضرورة أن الإبداع الشعري لا يأتي إلا من خلال الفصحى، هناك في الفصحى شعر هو من الرتابة والرداءة واللغة السقيمة ما يجعله لا علاقة له بالشعر الحقيقي وبالإبداع.. وهناك شعر مكتوب بالعامية، ولكنها العامية الأكثر جمالا وإبداعا في اللغة وعبر خيال واسع ومتجاوز لما يكتب في الفصحى.. بل هي أكثر حداثة شعرية من تلك التي تكتب بالفصحى. وأمثل هنا بتجربة منصور وعاصي الرحباني.. شعرا وموسيقى عبر حنجرة الفنانة الكبيرة فيروز، وهي تجربة شعرية وغنائية لافتة وكبيرة في الثقافة العربية، وأمثل أيضا بأشعار بيرم التونسي وأحمد رامي.. وصلاح جاهين وفؤاد حداد وأحمد فؤاد نجم والأبنودي وآخرين.. في العامية المصرية، ثم تجربة الأمير بدر بن عبدالمحسن محليا، والتي تمثل تجربة شعرية استثنائية تجلت عبر أصوات سعودية، وتحديدا عبر الفنانين طلال مداح ومحمد عبده. صحيح أن اللغة العربية وعاء حضاري لثقافة الأمة وهويتها، غير أنه لا ينبغي النظر إليها، كما لو أنها حالة مقدسة لا يمكن الاقتراب منها والمساس بها، اللغة تتطور وتتقدم بتطور وتقدم الذهنية التي تعيها واللسان الذي ينطق ويعبر بها، ذلك أن الشعر العربي يمثل درة وذروة الإبداع في تاج الثقافة العربية.. قديما وحديثا. لكن لا بد من النظر إلى اللغة العربية من نافذة الإبداع.. ومدى قدرة هذه اللغة على إضاءة وإضافة مفردات ورؤى جديدة. هناك غثاء حقيقي في كثير مما يكتب باللغة العربية شعرا ونثرا، وهناك غناء وغنى في العامية والمحكية السعودية والخليجية والعربية. الإبداع يتحقق في اللغة الفصحى من خلال شعراء وفنانين خلاقين.. وكذلك في العامية الدارجة، وليست المسألة متعلقة بالحفاظ فقط على اللغة العربية وصونها وصيانتها. اللغة إبداع أولا بعيدا عن الحفظة وحراس الماضي.. والذين ينظرون إلى كل شيء في ذلك الماضي وكأنه نص مقدس.. اللغة خلق وابتكار وخطاب جديد يأتي من داخل اللغة القديمة.