يتوجه الناخبون الفرنسيون صباح اليوم إلى صناديق الاقتراع الموزعة على 67 ألف مكتب منتشر على كافة الأراضي الفرنسية وسط هيمنة أجواء العملية الإرهابية التي ضربت باريس ليل الخميس-الجمعة. وبالنظر للتهديدات الجدية، فقد حرص رئيسا الجمهورية والحكومة على طمأنة الناخبين الـ47 مليونا لجهة أمن العملية الانتخابية حيث عبأت وزارة الداخلية ما لا يقل عن خمسين ألف رجل للمحافظة على الأمن فيما وفرت وزارة الدفاع 7 آلاف رجل. وبموازاة ذلك، وبنتيجة اجتماع مجلس الدفاع، فقد تقرر تجهيز وحدات تدخل سريع لمواجهة أي طارئ إرهابي. بعد ساعات قليلة من المأساة التي ضربت باريس، ظهر الرئيس الفرنسي على شاشات التلفزة ليؤكد على «حرص الدولة المطلق» على توفير أمن وسلامة العملية الانتخابية. أما رئيس وزرائه برنار كازنوف فقد أعلن أمس، عقب اجتماع مجلس الدفاع في قصر الإليزيه صباح الجمعة أنه «لا شيء يجب أن يحول دون إتمام العملية الديمقراطية» التي تمثل الانتخابات الرئاسية واسطة عقدها. وقال كازنوف إنه «يعود لنا (أي الفرنسيين) ألا ننساق للخوف أو الترهيب أو الاستغلال لأن ذلك يعني أننا نسقط في لعبة أعداء الجمهورية». وذهب مرشح الحزب الاشتراكي بونوا هامون في الاتجاه نفسه إذ أعلن أنه «سنرتكب خطأ كبيرا إذا أذعنا للخوف ووضعنا حدا للنقاش الديمقراطي» مضيفا أنه يتعين على الفرنسيين «خصوصا» عدم تقديم «هدية» للإرهابيين بالتخلي عن حقهم في الممارسة الديمقراطية محذرا من الاستغلال السياسي لما حصل. بيد أن هذا الموقف الذي عبر عنه أيضا مرشح الوسط إيمانويل ماكرون لم يحظ بإجماع المرشحين الآخرين خصوصا مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبان ومرشح حزب «الجمهوريون» فرنسوا فيون اللذين لم يترددا في انتقاد الحكومة الحالية بسبب «عجزها» عن وضع حد للإرهاب وحماية الفرنسيين. وكانت مارين لوبان الأعنف في انتقاداتها لأداء الحكومات اليمينية واليسارية «منذ عشر سنوات وحتى اليوم» ما سمح لها بأن تعلن نفسها «الضامن» الوحيد و«القلعة» الحصينة بوجه الإرهاب بينما الآخرون من اليمين واليسار بانوا عن فشل ذريع في وقف الإرهاب الذي أوقع في فرنسا 238 قتيلا منذ يناير (كانون الثاني) 2015 ناهيك عن ألف جريح. حتى ظهر الخميس، كانت صورة ميزان القوى بين المرشحين الأربعة كالتالي: ماكرون: ما بين 23 و24 في المائة من الأصوات، لوبان: ما بين 22 و23 في المائة، فيون ومرشح اليسار المتشدد جان لوك ميلونشون: ما بين 19 و19.5 في المائة من الأصوات بينما استمرت شعبية مرشح الحزب الاشتراكي بونوا هامون في التدهور «أقل من 8 في المائة». وإذا أخذنا بعين الاعتبار هامش الخطأ الإحصائي «2 إلى 2.5 في المائة»، فإن النتيجة تكون أن الأربعة قريبون إلى بعضهم البعض إلى حد يصعب التنبؤ بهوية المرشحين اللذين سيتأهلان للدورة الثانية المقررة في السابع من مايو القادم. وحتى ذلك التاريخ، كان من المتوافق عليه أن مشكلة ماكرون تكمن في تثبيت وصوله إلى الجولة الثانية وإذا تحقق له ذلك فإنه سيكون الرئيس الثامن للجمهورية الخامسة لأن كافة استطلاعات الرأي كانت تبين أنه سيفوز بالرئاسة بفارق كبير مهما تكن هوية منافسه. وبالمقابل، فإن مشكلة لوبان تكمن في مصير الجولة الثانية إذ أنها وبعكس ماكرون، ستخسر كل المنازلات بغض النظر عن هوية خصمها. وبرأي المراقبين، فإن هناك ما يمكن تسميته بـ«السقف الزجاجي» الذي يمنع لوبان والجبهة الوطنية معها من الوصول إلى قصر الإليزيه. وفي أي حال، فمن المرجح أنه إذا تأهلت لوبان للدورة الثانية، فإن غالبية اليمين واليسار ستقف ضدها في إطار «جبهة جمهورية» لقطع درب الرئاسة عليها. بيد أن هذا المعطى كان صالحا حتى أول من أمس. وثمة من يرى أن حظ لوبان في تحقيق «اختراق» يعتمد على ما سيقرره المترددون في الذهاب إلى صناديق الاقتراع أو الذين لم يتأكدوا بعد من خياراتهم. وبرأي هؤلاء، قد يكون بعضهم «مترددا» سابقا في إسقاط اسم لوبان في صندوق الاقتراع. لكن عودة التهديدات الإرهابية والحاجة إلى رئيس قوي وحازم وقادر على التعاطي معها قد تحفز البعض على الاقتراع لصالح مرشحة اليمين المتطرف. وأول من أمس، خرجت مارين لوبان بلائحة من الإجراءات «الجذرية» التي تريد تطبيقها فورا في حال وصولها إلى قصر الإليزيه وهي تستهدف محاربة الإرهاب والتطرف الإسلامي والهجرة غير الشرعية وحتى وضع حد للهجرة الشرعية ولم شمل عائلات المهاجرين. وعمليا تدعو لوبان إلى إسقاط الجنسية عن الذين يتمتعون بجنسيتين وطرد كل أجنبي له علاقة بالإرهاب من بعيد أو من قريب وعلى رأسهم الأشخاص الموجودة أسماؤهم على اللوائح الأمنية وإغلاق المساجد «المتطرفة» وطرد الأئمة الأجانب الذين يلجأون إلى خطابات متشددة... وتضاف كافة هذه التدابير إلى عزمها على إعادة فرض الرقابة على الحدود فضلا عن الخروج من معاهدة شينغن للتنقل الحر وإجراء استفتاء لترك الاتحاد الأوروبي «الفريكست قياسا على البريكست». وباختصار، فإن عملية ليل الخميس - الجمعة قد تكون «الهدية» التي جاءت لمارين لوبان قبل 72 ساعة من فتح أبواب مراكز الاقتراع. إنه رهان التشدد بوجه ما تعتبره ضعف الحكومات المتعاقبة يمينا ويسارا. لكن مرشح اليمين الكلاسيكي فرنسوا فيون اعتمد «المزايدة» وهو يعي أن جمهوره الانتخابي يطالب بدوره بتدابير حازمة، فضلا عن ذلك، فإن تركيزه على ملف الهوية والوطن والأمة والجذور المسيحية لفرنسا وأوروبا يندرج في السياق نفسه. ولا شك أن جانبا منه كان غرضه إغلاق ملف الفضائح التي ارتبطت باسمه والتي أطاحت عمليا بحظوظه بالوصول إلى الرئاسة. لكن الهدف الآخر كان حرصه على عدم ترك لوبان تصادر وحدها الإرهاب والملف الأمني وموضوع الإسلام... وبرأي المحللين، فإن الفرنسي العادي سيميل على الأرجح لـ«تفضيل الأصل على التقليد» أي لوبان على فيون. ليست الأجواء الأمنية الملبدة هي الوحيدة التي تميز هذه الانتخابات. فسمتها الأولى تهميش المجموعتين السياسيتين الرئيسيتين اللتين تعاقبتا على حكم فرنسا منذ ستين عاما وهما اليمين الكلاسيكي واليسار الاشتراكي. والحال أن ممثل الاشتراكيين يلحق عن بعد بالمرشحين الأربعة الأوائل. أما مرشح اليمين الكلاسيكي (فيون) فإنه يحل في المرتبة الرابعة وليس من المضمون له أن ينجح في التأهل للجولة الثانية. وإذا حصل له ذلك، فإنها ستكون المرة الأولى منذ إطلاق الجمهورية الخامسة التي يغيب مرشح اليمين عن الجولة الثانية. أما السمة الثالثة فتتمثل في الاختراق الاستثنائي الذي حققه مرشح الوسط إيمانويل ماكرون مستفيدا من انقسامات الاشتراكيين الداخلية ومن صعوبات فيون وارتباط اسمه بمجموعة من الفضائح. كذلك فإن ارتقاء لوبان لتتربع لفترة طويلة على المرتبة الأولى في استطلاعات الرأي وتزايد شعبيتها في كافة الأوساط الاجتماعية يمثل علامة بارزة ودالة على استدارة جزء مهم من المجتمع الفرنسي نحو اليمين المتطرف. ويعزو المراقبون ارتفاع شعبيتها إلى لحاق الكثير من الطبقات الدنيا من العمال والموظفين والمزارعين الذين كانوا منسوبي الولاء لليسار وللحزب الشيوعي بها. أما الظاهرة الأخيرة فاسمها جان لوك ميلونشون، مرشح حركة «المتمردون» أي اليسار المتشدد وهي خليط من الشيوعيين والماركسيين والخائبين من حكم الرئيس هولاند ومن قوانينه وتدابيره الليبرالية. وميلونشون الذي استفاد من انضمام تيار اليسار في الحزب الاشتراكي إلى صفوفه فرض نفسه منافسا جديا بعد أن كانت حملته في البداية ضعيفة لا بل هامشية. من هما الاسمان اللذان سيخرجان فائزين من الجولة الأولى؟ الرهان صعب وما يزيد من صعوبتها أن ترجيعات حادثة الشانزليزيه لم تعرف بدقة بغياب استطلاعات الرأي. ولذا، فإن المفاجآت تبقى غير مستبعدة. إنها ساعات قليلة تنتهي معها هذه الحلقة في مسلسل الرئاسيات الفرنسية.