القاهرة: ياسين محمد بحلول الليل بدأ إبراهيم سالم في طلب المساعدة لإشعال النار، لبدء جلسة تجمع القبيلة في صحراء سرابيوم شرق قناة السويس، كإحدى عادات الليل في البادية في مصر. تجتمع القبائل العربية في مصر في لقاءات دورية، لإقامة مسابقات الهجن ومبارزات الشعر والتفاخر بأنساب القبائل، فبعد يوم طويل في التباري بقوة الإبل لكل قبيلة صباحاً، يتحول التنافس الرياضي إلى منافسة في كرم الضيافة وجمع الأصدقاء، وتبادل أكواب الشاي الصحراوي، وأقداح القهوة العربية، وصواني الطعام، والمبارزة بفن الشعر، ويقول سالم: «جلسات الليل عادة أصيلة نتجمع فيها حول النار، لنعرف أخبار القبيلة، واستقبال الضيوف، فأي ضيف له علينا حق الطعام والشراب والمبيت وقتما حل». داخل خيمة صغيرة على طرف السباق، كان هناك ثلاثة رجال جالسين على سجادات حول صينية فضية، بها إبريق شاي وأكواب فارغة، ينتظرون الضيف القادم لتقديم كوب من الشاي الساخن له.في ليل سمر الهجن، صادفنا خيمة بعيدة عن الجمع، تراقب الجمل الراقد ينتظر موعد سباقاته؛ خيمة بسيطة وموقد نار ووسائد موزعة، أمام الخيمة سيارة دفع رباعي حديثة، بعد تبادل التحية وتبادل أقداح القهوة والشاي الصغيرة، بدأ أحمد الريداني في شرح مهمته في متابعة الجمال، يقول: «كل قبيلة مسؤولة عن تأمين الدفء لجمالها، وعلي أن أتابع إذا قام جمل وترك مكانه، وأيضاً لي مهام أخرى طوال العام في الرعي ومتابعة استيلاد الجمال الصالحة للهجن من الفصائل الأصيلة».في صحراء سيناء وسرابيوم ذات الطبيعة القاسية، تجد أسمى آيات الحفاوة، وكثيراً ما يضطر هواة الهجن إلى ترك مضمارهم وأماكن السمر ليلاً مع امتداد مشروعات استصلاح الصحراء، لكنهم دائماً ما يجدون مساحات جديدة شاغرة قابلة للتمهيد لركض الجمال. صحراء التيه في سيناء وسرابيوم في الإسماعيلية وبلبيس، أماكن تسودها حرارة لا تطاق، ظلت على مر الزمان صعبة المراس، تقطعها زراعات بسيطة ومشروعات ناشئة لزراعة الصحراء، ونجحت قبائل بدوية في استيطان الصحراء بفضل ذكاء أهاليها، وما تراكم من خبرات ومهارات على مر الأجيال، ومن تلك القبائل، الأحيوات والعيايدة والبياضية والأخارسة والسواركة والمعاذة الطميلات، ومنهم من تمتد صلة القرابة لديهم إلى قبائل شبه الجزيرة العربية، والسودان. تجتمع القبائل في أربع مناسبات سنوية في سباقات الهجن، فيتبارون في جري الجمال نهاراً، وتتباهى كل قبيلة بما تملك من «قعود» سريع، يتحمل الركض الطويل يصل ثمن أغلاها إلى نصف مليون جنيه، وتتحكم في السعر قدرة الجمل على التحمل وسرعة الركض، وصغر سنه أيضاً.صفات الكرم في الصحراء دوّنها مستكشف بريطاني «ويلفريد ثيسغر»، بين عامي 1946 و1948، في كتابه «الرمال العربية»، بعدما عبر الربع الخالي في شبه الجزيرة العربية مرتين، ورسم صورة رومانسية للبدو، إذ وصفهم بأنهم «أولئك الرعاة البدو الأميون الذين لهم من شيم الكرم والشجاعة والجلد والصبر والشهامة وانشراح الصدر، ما لم ولن أحلم أنا بامتلاكه». يهوى إبراهيم سالم، الذي ينتمي لقبيلة العيايدة، جلسات السمر والتباري في شعر الفخر بالقبيلة، وتبادل أكواب القهوة والشاي، ويقول: في المعتاد أن تتجمع القبيلة حول صواني الطعام، لنأكل ونشرب القهوة، لكن في التجمعات الكبيرة، يكون الجمع أكبر وتلتقي العائلة والقبيلة.بدأ الليل في التسلل إلى سماء الصحراء، التي رصعتها النجوم، ثمة حوالي 100 رجل يجتمعون في خيمة كبيرة ينتظرون موعد العشاء، على أرائك مفروشة بالسجاد، ترتفع عن الأرض بنحو نصف متر، ويتوسط الأرائك موقع نار به حطب يتصاعد منه اللهب وسط ظلمة الليل البارد، وعلى النار تستقر برادات الشاي وبكارج القهوة، تنتظر أحد الشباب ليطوف بالقهوة على الشاربين، يبتسم سالم قبل أن يقول: «تطورت حياتنا عما كان عليه الأجداد، لكننا لا نزال نعيش على حياة البدو، مازلنا نربي الإبل ونتاجر بها وما زلنا نعيش على لبنها ولحم خرافنا، ونستفيد من تطور الحياة ووجود المدارس لأطفالنا والرعاية الطبية، لكننا نعود كثيراً لحياة الصحراء واللقاء في سباقات الهجن وسمر الليل».إبراهيم سالم يعيش على طرف قرية مكتملة المرافق في مدينة التل الكبير بالإسماعيلية، لكنه مازال يحتفظ بمساحة كبيرة خلف منزله بطابعها الصحراوي، حيث يفضل الجلوس دائماً أسفل شجرة وحيدة، ويتنقل في الصحراء لحضور لقاءات الهجن، سألته: لماذا لا يقيم بشكل كامل في المدينة ويكمل تجارته بها، فقال «إن الإبل أثمن ما لديّ، كما كانت بالنسبة لأبي وآبائه من قبل». كنا نجلس على سجادة جميلة بُسطت على الرمال، ويتولى إبراهم متابعة إنضاج القهوة، قبل تسليمها لزميله ليوزعها على الأقداح الفارغة بالمجلس، يستمد إبراهيم أهميته من كونه سائس إبل لا يشق له غبار، يجيد تربيتها وتجهيزها للسباقات، وكثيراً ما يشارك في لقاءات هجن في مدن أسوان وكاترين وبلبيس والإسماعيلية، ويقول «الإبل لا تعيش في المدن وهكذا أنا، أفضل أن أكون بجانبها، نحصل على ما نحتاج إليه من المدينة، ولكن حياتنا أقرب إلى الصحراء لرعايتها». ويضيف شيخ عجوز ناداه الجمع باسم الشيخ عويضة، كان يجلس في منتصف الخيمة: «كنا نتحرك في الصحراء، ولا نملك إلا ما نحمله، لكن مع توسعات العمران في الصحراء منحتنا الحكومة منازل كتجمع حضري ومدارس ورعاية صحية، لكننا نحافظ على تقاليدنا في الحياة». وافقه القول أربعة رجال جالسين بجواره، بإشارة من رؤوسهم، وأشار أحدهم إلى طفل صغير يلهو بجوار النار، كان بالنهار يجلس على ظهر جمل راكض في سباق الهجن يقول: «هذا ابني اسمه صالح يدرس في مدرسة، ليكون له فرصة في المستقبل، ولكننا نعلمه تقاليد الصحراء وإرث القبيلة». يحكي الشيخ سلامة من قبيلة الحويطات، أن كل قبيلة تجتمع في الليل حول مأدبة عشاء وتدعو إليها القبائل الأخرى، لتكون ضيفها على طعام العشاء، ويقول: «هذا تراث أجدادنا الذي نعود إليه دائماً، لا تجتمع القبيلة هكذا إلا في حفلات العرس، أو سباقات الهجن، لذلك تكون جلسات الليل كالسمر نحكي فيها ما نمر به، ونتناقش في أمور القبيلة». يحتفظ البدو في مصر بعادات الصحراء، فلا يميلون للوجبات السريعة، وقليل منهم يجرب الأكلات البحرية، وتظل لحوم الماعز والإبل الوجبة المفضلة لهم، ففي ليالي السمر حول النار في تجمعات الأعراس أو الهجن، تقف الخراف على طرف الخيمة تنتظر الذبح وتجهيز لحومها مع الأرز للضيوف.