كانت الكتابة، وما زالت، عندي بلسماً من كل أوجاع الحياة، تبحر بك بكل هدوء نحو عوالم التأمل والتفكير والتعبير، تحفزك على الاطلاع والقراءة والبحث عن فكرة جديدة. وتزداد متعة الكتابة (وقيمتها) حينما يشهد الكاتب ما تحدثه من أثر أو حراك أو جدل! وهج الكتابة يأتي من ردات الفعل على ما يكتبه الكاتب ويثيره من حوار ونقاش وجدل، ويزداد ذلك الوهج حينما تسهم الكتابة في التغيير أو التطوير أو علاج خلل. تأتي الكتابة أحياناً مثل ذلك الحجر الذي يحرك الماء الراكد، أو كصرخة توقظ النائم أو اللاهي من خطر داهم، ثم تتحول الكتابة إلى إدمان جميل حينما يجد الكاتب صدى لما يكتبه، وحينما يكتب وفكره غير ملوث بمخاوف من مقص رقيب حكومي أو اجتماعي، وحينما تصبح قناعة راسخة لدى صاحبها بأنها ستعطي أُكلها - لصالح المجتمع - وإن بعد حين. وهكذا، كانت الكتابة أداة مهمة من أدوات التفكير والتنمية، ومساهماً كبيراً في صناعة الوعي. ولكنني، وفي زمن التواصل الاجتماعي، ألح في السؤال: ما فائدة الكتابة «التقليدية» اليوم؟ وأي أثر يتركه مقال صحافي، مهما تحلى بالجرأة والصدق، في زمن انشغل فيه الناس بأجهزة الهواتف الذكية، وأدمنوا «الرسالة» المختصرة؟ وكيف لك أن تشرح فكرة معقدة من خلال خلاصة خلاصتها، أو كما يقول المسؤول المنشغل دائماً، أو الملول: «عطنا الزبدة»؟ أنا ضد الإطالة التي ليس لها داع، مثل «الكلام الذي ليس فيه كلام»، ولكنني أخشى أن تطال ثقافة «عطنا الزبدة» الأفكار المعقدة، أو تلك التي تحتاج لتحليل مطول وشرح مفصل. وأخشى أكثر أن تصبح القراءة الواعية، لمقالات تحليلية أو أبحاث مهمة، ناهيك بالكتب القيمة، عملة نادرة في زمن «عطنا الزبدة»! وأخاف أن تتأسس لدينا حالة من «العجلة»، في كل شيء، على حساب الفكرة المستنيرة، وجودة التحليل، وقوة التعبير. وهكذا، يطل السؤال من جديد: كيف نفكر بهدوء، ونكتب بتأنٍ، كي تنضج الأفكار وتتضح الرؤى، ونحن في حالة لهاث مستمر مع منصات «التواصل» الجديدة؟ بدأت الكتابة الجادة في العالم العربي «نخبوية»، ويبدو أنها ستعود «نخبوية»! ففي البدء، ما كانت القراءة ولا الصحف متاحة لقطاع واسع من أبناء وبنات المجتمع. ثم جاءت «طفرة» المدارس والصحافة والكتب، وصار الكاتب «نجماً» في مجتمعه؛ يعبر عن هموم بيئته، ويطرح الأسئلة الضرورية للتنمية، ويمارس بعض النقد الضروري للبناء. تزاحمت «النجوم» في سماء العالم العربي، وصار طموحاً وإنجازاً أن ينشر المرء رأيه في جريدة يومية أو مجلة أسبوعية. ثم جاءت الإنترنت بفضاءات جديدة للكتابة والتعبير و«النجومية»، حتى برعت «المنتديات» في صناعة نجوم شباب تكتب بلغة جديدة وأساليب أقرب للناس. ولم تدم «نجومية» المنتديات طويلاً، فبفضل الـ«فيسبوك» بدأ سباق جديد لابتكار منصات تعبير جديدة ومختلفة كلياً عما مضى. وجاء «تويتر» ليعزز فكرة «عطنا الزبدة»، فاختزلت الفكرة في جمل مختصرة، وشُوهت الآراء أحياناً بسبب ضيق المساحة وسرعة التعبير، فسهل الوقوع في فخ الفكرة الناقصة، وكثر متصيدو الأخطاء، ممن يصنعون من «الحبة قبة»! ودخل «الفيديو» لاعباً مؤثراً جديداً في التعبير عن شؤون وشجون المجتمعات، وأسهم في صناعة «نجوم» جدد، منحتهم نجوميتهم ثروة مالية كبيرة في أوقات قصيرة لم يحققها نجوم الكتابة الصحافية الرصينة على مدى أعمارهم. وفي هذا الزمن المتغير بسرعة فائقة، لم يعد للكتابة «المتروية» سوق كبيرة، فنحن في زمن اللحظة: نفكر في لحظة، ونُعبّر في لحظة، نفرح ونغضب في لحظة، نمدح ونذم في لحظة! أم أن تلك ضريبة المرحلة الانتقالية التي لا ندري إلى أين ستفضي بنا، وإلى أي شكل من أشكال التفكير والتعبير ستؤول بنا. أيها الكاتب المتأمل المؤمن بدور الكتابة في التنوير والتغيير، لا تحزن لأن صوتك الهادئ الوقور قد خفت بسبب ضجيج «الكلام» الكثير الذي ليس في أغلبه أي كلام، ولا تبتئس أن جمهورك القديم يتضاءل في ظل موجة «المزاج» الهائم بالفكرة المستعجلة، والرأي السريع، والنص القصير. وإليك أهدي نصاً لفيلسوفنا، الإنسان الكبير، جبران خليل جبران، لعل فيه عبرة: «يكتب بعضنا لمن ماتوا، ولا يدري أن قرّاءه في المقابر. ويكتب بعضنا لإرضاء معاصريه، حاسباً أن في ذلك العظمة والخلود، فيخطئ المرمى. ويكتب بعضنا لأنه إن لم يكتب يمت، وهذا من الخالدين».