أتساءل لماذا تسيطر تلك النبرة التنكرية والدفاعية عن أي محاولة للكشف عن خلل ما أو حالة اضطراب في المجتمع، ولماذا تستمر حالة الصمت المغلف بابتسامة رقيقة، تكسرها أحياناً كلمات مختصرة وموجزة «كل شي تمام وتحت السيطرة»، برغم من أن الأزمة في بعض الأحيان تصل إلى حجم الكارثة. أتساءل لماذا يصر بعضهم أن الناس غير مؤهلين للتعامل مع المعلومات الحديثة، وبالتالي يجب حجبها عنهم، لأنهم لا يحسنون التصرف في الأزمات، وقد يخرجون عن طورهم في حالات القلق، وهو ما حوّل المعلومة إلى القنوات السرية والإشاعة والهمس وثم جعلها حبيسة للقفلة الشهيرة «الكلام ليس للنشر»، وهو ما يؤدي إلى التأخير أحياناً في إيجاد الحلول السريعة للأزمات الطارئة مثلما حدث في وباء الكورونا، وما يصاحبه من إنكار وتعتيم غير مبرر. أتساءل لماذا يظهر التناقض في محتوى حديث البعض عندما يتحدث باللغة الإنجليزية مع الخارج، وحين يتحدث باللغة العربية مع الداخل، معبرة عن حجم الهوة المعرفية بين لغة الماضي ولغة العلم الحديث، وعن ازدواجية غير مطمئنة للمجتمع، ولماذا نقدم اللغة العربية كوعاء للتخلف والشعر الشعبي والوعظ في شؤون الماضي، بينما نجحت الأمم الأخرى في إثراء لغاتها المحكية بالمفردات المعرفية. أتساءل لماذا يعود الناس في أغلب الأحيان إلى الماضي من أجل إيجاد حلول لأزماتهم وأمراضهم ومشكلاتهم برغم من أن أنساق المعرفة الحديثة قدمت ولازالت تقدم أحدث الحلول لمختلف الأزمات والمشكلات، ولماذا ندرس الأجيال القادمة أن منتجات المدنية الحديثة والعلم يجب أن تمر من قناة الأمس قبل تداولها بين الناس، وأن تصنف صلاحيتها عقول ترى الحياة والمستقبل بعيون الماضي. أتساءل لماذا لم يتخل رجل قضى جلّ حياته الدراسية في الجامعات الغربية عما تعلمه من تقنيات معرفية متقدمة، وما أن يلبس بشت المسؤولية، وينثر بكثافة ذرات دخان البخور على ملابسه، يعود ألف عام إلى الخلف، ثم يتصرف بدبلوماسية الصحراء التي دائما ما تتفاخر بإنكار العيوب والمثالب، لأن «الرجال مخابي» في الأعراف الماضوية. أتساءل لماذا يتصرف خريج الجامعات المرموقة بعد عودته في شكل مغاير عما تلقاه من معرفة متطورة في أشهر الجامعات، وما أن تتطأ قدماه أرض الوطن يطوي صفحة الحاضر، ويعود إلى الماضي بكل أنماطه وتقاليده ومفرداته، ويتذكر قبيلته، وينتصر للنخوة، ثم يحشد أقرباءه في المناصب واللجان من حوله، وفي مفارقة مدهشة ينسى تماماً أنه ينتمي إلى الثقافة الحديثة. أتساءل لماذا يكتب أحدهم أبحاثاً علمية يُشار إليها بالبنان في المحافل العلمية، ويُستشهد بها في الحقائق العلمية الموثقة، لكنه عندما يتحدث للعامة، يتنصل منها تماماً، ويتصرف كأنه كائن قديم، تحكمه أعراف النظرة الدونية للعامة أو الدهماء، لكن عندما تواجهه بالحقيقة العلمية يعترف، ولكن يرفض أن يغير لهجته الماضوية حين يخاطب الناس. أتساءل لماذا يحاول بعض المفتين أن يهمس في أذنك سراً أن فتواه الأخيرة خاصة بك فقط، وأنه لا يجوز أن تنشرها بين العامة لئلا يتساهلوا بحدود الدين، ولماذا لا زلنا نتعامل مع الناس في عصر التدوين من خلال قوانين شفوية، برغم من أن العالم المعاصر يعيش في واقع تحكمه القوانين المنشورة للجميع، والتي لا تفرق بين كائن وآخر تحت أي أسس عنصرية أو أيدولوجية. أتساءل لماذا يعيش الماضي العربي بكامل زينته وأفكاره وتقاليده في الحاضر، فالعربي القديم بإبله ودلاله وحاشيته وأشعاره وخياله لا زال ينصب خيمته في وسط ميدان المعرفة والأبحاث العلمية، ولا زال يتحدث مع أفراده بلغة ومفردات عمرها ألف عام، برغم من أن البشرية من حواليه تجاوزت ماضيها منذ قرون، وأصبحت في سباق من أجل امتلاك أسرار الطبيعة وتطوير أنظمتها، في حين يصر بعضهم على أن تقدمه مشروط بالحديث في أفعال الزمن الماضي، بينما يتحدث غيره في لغة معرفية حاضرة، ويتصرف في أساليب متطابقة مع آخر ما توصلت إليه المعرفة الحديثة. أكتب هذا المقال بمناسبة رحيل الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، الحائز على جائزة نوبل، وصاحب الرواية الشهيرة «مائة عام من العزلة»..