«أنت أقوى من المخدرات».. شعار لحملة ضخمة تحاول إقناع المواطنين بكل مستوياتهم بأن المخدرات مجرد وهم يمكنهم أن يتغلبوا عليه، بفضل الإرادة والعزيمة، حيث تعتمد الدعاية على تصدير تلك الجزئية للمواطنين كدرع للوقاية من هذا الوحش الذى يمكن أن يفترس الأمة فى سنوات ليست بالكثيرة. لكن على الجانب الآخر تجد الأرقام والإحصاءات - الرسمية منها وغير الرسمية - تؤكد انتشار الظاهرة، وبعد أن كنا نحاول محاربتها بين الكبار، وبعد أن بدأنا نجد الأطفال يدخنون السجائر، وصل بنا الحال إلى وجود أطفال يعملون فى منظومة المخدرات فى مصر كـ «موصلاتى الكيف». من جانبه قال الدكتور عمرو عثمان رئيس صندوق مكافحة الإدمان أن نسبة الإدمان فى مصر سجلت ٢.٤٪، أما نسبة التعاطى فبلغت ١٠٪، وهى تتعدى نسبة التعاطى العالمية التى تسجل ٥٪ وهو ما يشكل قلقا كبيرا، ووصلت نسبة التعاطى بين الأطفال من ١٢ إلى ١٨ سنة إلى ٤٫٢٪ من المتعاطين، وأظهرت الدراسات أن هناك تدنيا فى سن التعاطي، حيث يبدأ الشباب فى مرحلة التعاطى من عمر ١١ عاما وهو ما يثبت تراجع دور الأسرة، حيث إن ٥٨٪ من المدمنين يعيشون مع أسرهم بشكل طبيعى دون مشكلات كما كنا نتخيل الأمر من قبل، مما يدل على تراجع دور الأسرة بشكل كبير، فتواجد الأب والأم مع أبنائهما ما هو إلا تواجد جسدى وليس تفعيلا لدورهما التربوى واحتوائهما النفسى». بدأت مهنة «موصلاتى الكيف» فى الظهور كأحد أضلع إمبراطورية المخدرات فى مصر، خاصة مع انحسار دور «صبي» الصنايعية، فالعديد من الصنايعية سواء كانوا النقاشين أو البنائين أو حتى الميكانيكية يشتكون ندرة وجود الصبي، وذلك لتحولهم إلى مهنة «موصلاتي» للمخدرات، فبدلا من العمل طوال اليوم مع الأسطى مقابل ٦٠ جنيها كحد أقصى، فتوصيلة كيس صغير من المخدرات لا يتعدى حجمه كيس البهارات يعود عليه بـ ٢١٠ جنيهات لمحطة المترو الواحدة كحد أقصى. البداية مع الحاج زاهر الأسيوطي، أحد تجار الغلال بمنطقة أرض اللواء، يتحدث عن تجربة شارك فيها من خلال جاره الذى علم بعمل ابنه «موصلاتى للمخدرات» ويقول: علم الحاج مندور جارى بعمل ابنه فى تلك المهنة بالصدفة البحتة، حيث كانت أمه تغسل ملابسه، ووجدت بداخلها ٢٠٠ جنيه، وطبعًا «اتشالت الدنيا ولم تقعد» كيف وصلت ٢٠٠ جنيه إلى جيبه، خاصة وأن مصروفه الأسبوعى ٢٠ جنيها، وطفل فى الثانية عشر من عمره، لا يمكن أن يتحصل على مبلغ كهذا، خاصة أنه من المدرسة إلى البيت، فكيف يكون ذلك؟ وتابع: علم الأب بالموضوع وعاد إلى المنزل، وبعد تحقيق طويل مع الولد علموا أنه يعمل فى تلك المهنة منذ حوالى شهر، ويروى ما قاله الأب فيقول: جاء لى يشكى الحال، ولا يعلم ما العمل فى تلك الكارثة، فالولد منقطع عن المدرسة لمدة تزيد على شهر، وتعامل مع فئة مثل هذه فكيف يكون العمل، خاصة أن الموضوع أتى من المدرسة، فأحد زملاء الطفل دله على هذا الطريق، وبالفعل بدأت التجربة، من خلال وضع الكيس فى جيبه ونقله من محطة البحوث وحتى ميدان التحرير، بواقع ٢٣٠ جنيها للمحطة الواحدة، وكان الاتفاق على أنه مرة واحدة حتى يكون لديه فلوس لشراء لبس العيد القادم ومساعدة أهله، ولكن الموضوع تطور بأنه يحتاج إلى أن يكون راجل يعتمد على نفسه، وبدأ بالفعل بعمل توصيلة أو اثنتين أسبوعيًا، حتى وصل الأمر إلى تهديده بإبلاغ أهله بالأمر، واستمراره فى عمل ثلاث توصيلات أسبوعيًا، تكون مواعيدها كلها من الساعة السابعة صباحًا، وحتى الساعة الثامنة والنصف صباحًا بالتزامن مع وقت المدارس، حتى يكون طالبًا يرتدى زى المدرسة ومع أقرانه، فلا يمكن الشك فيه أو تفتيشه، وبالتالى تكون الأمور آمنة تمامًا. وبالقرب من مزلقان أرض اللواء، يتحدث كامل أبو المجد، أحد سائقى التوك توك بالمنطقة، عن «بلبل» أو نبيل سعد، الطفل الذى لم يتخط حاجز الثالثة عشرة، يحفظ ثلاثة أجزاء من القرآن، ليس من المتفوقين دراسيًا ولكنه طبيعي ينجح كل عام بنتائج ليست سيئة، أبوه موظف بمصلحة الضرائب، ووالدته من العاملين بهيئة الأبنية التعليمية، فهو أصغر إخوته، ويعد محور اهتمام الأسرة يقول كامل: بلبل وإخوته جيراننا منذ سنوات هنا فى أرض اللواء، كنا نعتبرهم «الناس الكويسين» فلا يعمل أبناؤهم فى الصيف مع ميكانيكى أو حتى نقاش أو البنائين، فطول عمرهم هو وإخوته من العيال التى تتعلم الكمبيوتر، وتهوى الإنترنت والإنجليزى ويذهبون إلى النادى وهكذا، وأذكر أن بلبل تحديدًا كان يلعب كرة القدم فى أحد الأندية حتى عام فات، ولكن فجأة سمعنا صريخا وزعيقا يأتى من منزل بلبل لم تعتد المنطقة كلها عليه، واكتشفنا أن بلبل سقط داخل البيت مغشيًا عليه، وبعدما ذهبنا به للمستشفى وعاد بلبل إلى المنزل، عاد والده إلى المنزل ليبدأ الصراخ بعد ما كشفت التحاليل أنه يتعاطى المخدرات، وكما سمعنا أن أباه علم أن ابنه يعمل «موصلاتى للمخدرات». ويسرد تسعيرة التوصيلة كما سمعها من محمد شقيق بلبل الأكبر ليقول: وسمعت من محمد شقيق بلبل الأكبر أن تسعيرة المخدر تختلف حسب نوعه، والموضوع الآن أصبح بـ «محطة المترو» بغض النظر عن استخدامك للمترو من عدمه، فالبودرة بأنواعها فى كيس صغير لا يتعدى حجم كيس الملح الصغير يكون من٤٥٠: ٦٣٠ جنيها للمحطة الواحدة، والبرشام من ٣٥٠: ٤٥٠ جنيها للمحطة الواحدة، والحشيش هو أرخص وأقل الأنواع بواقع ٢٠٠ جنيه للمحطة الواحدة. ومن الوراق، يتحدث خميس السيد أحد أصحاب المقاهى هناك ليقول: شغلانة موصلاتى المخدرات ليست جديدة، فالأمور طول عمرها فى هذه الشغلانة مقتصرة على فتيات، لابتعاد الشبهات عنهن، ولكن بعد أن أصبح تفتيش الفتيات أمرا طبيعيا، توجه التجار إلى الأطفال، خاصة بعد وجود متعاطين ومدمنين منهم، وأكبر دليل على ذلك هو معاذ ابن أحد الرجال المشهورين بالمنطقة، والذى كانت له واقعة شهيرة بالمنطقة. ويتحدث خميس عن تلك الواقعة ليقول: جاء جواب من المدرسة بأن معاذ متغيب عن الدراسة لمدة زادت على شهر كامل، وهو ما يستوجب إعادة قيد معاذ بالمدرسة نتيجة لجواب الفصل، وطبعا تزلزل البيت لما حدث، وانتظروا حتى وصل الولد وانهال أبوه عليه ضربًا ثم قرر حبسه فى المنزل حتى يعترف ويقر بما كان يفعله طوال هذا الشهر، ومع صمت الطفل بدأ الأب فى تفتيش شنطته ودولابه وكل أغراضه حتى وجد ٦٠٠٠ جنيه معه فى شنطة المدرسة، كانت حصيلة نقل كيسين من المخدرات من المرج إلى الدقي، بعد أن قام بصرف بعض المال على كوتشى جديد – على حد قول الطفل- وهنا صمتت الأجواء لأن الأب نفسه لم يلاحظ حذاء ابنه الجديد، ولا ملابسه الجديدة التى تخللت الملابس القديمة فى دولابه رغم تفتيشها ورؤيته له وهو يرتديها أكثر من مرة، ولكن تطور الأمر إلى حد الكشف على وجود تلك السموم بدم الطفل، وبالفعل كانت الكارثة، وهو الآن فى إحدى مصحات معالجة الإدمان. ومن بولاق أبو العلا، يتحدث عزوز البحيري، أحد أصحاب ورش النجارة بالمنطقة، حيث يروى قصة حمادة، أحد الأطفال الذين فقدوا والدهم وبدأ بالعمل فى الورشة لكى يظل البيت مفتوحًا ليقول: حمادة طفل لم يتجاوز الثالثة عشرة، وكان على مدار سنة وشهرين يعمل ويكد فى الورشة مقابل يومية تصل أحيانًا مع ضغط الشغل إلى ٧٥ جنيها، وكان ولدًا ذكيًا، تعلم المهنة سريعًا وأصبح له صيت فى المنطقة، خاصة مع تعاطف الناس معه لأجل ظروفه الصعبة ووفاة والده، ولكن فجأة ترك حمادة الشغل دون سابق إنذار، وأصبح من الذين يحملون الموبايلات الباهظة، وكل يوم طبيخ ولحمة وفراخ وكان حديث المنطقة، ولما سئل عن سر النقلة يقول: بدأت أشتغل مع تاجر فى الفاكهة. ويتابع: لم تكن تلك الحجة مقنعة لأى شخص، وكنا جميعًا مقتنعين أنه حرامى أو يشترك فى شيء مناف للقانون، حتى جاء إلينا خبر أنه تم القبض عليه فى محطة مترو الشهداء حاملًا كيسًا من المخدرات، ولما ذهبنا إليه عرفنا أنه كان يعمل «موصلاتى» للمخدرات، فالتاجر يقول له العنوان، وهو يذهب لتوصيل المطلوب للمكان المتفق عليه، وبالطبع كانت شغلانة مريحة عن الورشة ومربحة بشكل مضاعف، ولكن كانت النهاية فى السجن، ويجب أن نذكر أنه على مدار ٨ أشهر فى تلك المهنة، طور المنزل ودهن البيت بالكامل، واشترى غسالة وثلاجة وبوتاجاز، واشترى موتوسيكلات، وكل هذا من تلك المهنة غير الشريفة.