دولة الحداثة مسؤولة عن الأمن العام. والسلم المدني في الوطن والمجتمع. لكن المواطن هو أيضاً مسؤول عن أمنه الشخصي. وعن أمن المجتمع. علينا أن نصارح الأقباط في أيام حزنهم. الرئيس عبد الفتاح السيسي يقدّر موقف الأقباط الداعم. لكن رئيس الدولة لا يستطيع أن يضع حارساً لكل قبطي. الأقباط أيضاً مسؤولون عن أمن كنائسهم. كيف يستطيع إرهابي ملفوف بحزام ناسف أن يدخل كنيستين، كان في إحداهما بطريرك الأقباط تواضروس؟ مسؤولية القبطي والمسلم عن أمن كنيسته ومسجده تتقدم على مسؤولية الدولة. والنظام. وأجهزة الشرطة. كان على البطريرك وكهنة الكنيسة تعيين حراس ومراقبين، لتأمين صالة القداديس. والبحث تحت المقاعد والمنابر. فليس كل من يدخل بيوت الله بريئاً. لا شك أن هناك تقصيراً لدى أجهزة الأمن والشرطة. كان بالإمكان اتخاذ إجراءات وقاية. وحماية أشد وأوسع. وبخاصة أن الإرهاب تسلل من الصحراء. وبات مقيماً في المدن الكبرى. ومدن الدلتا المكتظة بالسكان. لكن المطالبة بتغيير وزير الداخلية. كلما قُتِل مؤمن في دور العبادة ليس حلاً عملياً. وبإمكان مجلس النواب أن يستجوب الوزير ومسؤولي الأمن تحت القبة النيابية. حالة الطوارئ سارية في شمال سيناء. وبادر الرئيس السيسي إلى إعلانها مؤقتاً في جميع أنحاء مصر. الإعلام الرسمي والمستقل يجب أن يعلن ويُعلم الرأي العام ماذا تعني حالة الطوارئ. معظم السوريين لم يعرفوا أنهم محكومون بها، منذ أكثر من خمسين سنة، تحت حكم الأب والابن. حالة الطوارئ في الأحوال العادية تضييق على حرية المواطن. عندما تعلن الدولة حالة الطوارئ، فهي تستطيع أن تعتقل المواطن العادي. وتعطل الصحف. بل وتلغي السياسة. وتحد من حرية الأحزاب. تضخم المؤسسة الرئاسية. واختصار مسؤوليات وصلاحيات السلطة التشريعية، إشكالية كبيرة للنظام الجمهوري العربي الذي تشكل على مفرق سبعينات القرن الماضي. بعد الموت المبكر والمفاجئ لجمال عبد الناصر. العلاقة تبدو مرتبكة بين المؤسسة العسكرية وجيل الشباب في مصر، منذ الثورة الناصرية في عام 1952. وأعتقد أن جيل الانتفاضة المصري مخطئ في موقفه من المؤسسة العسكرية. نعم، المؤسسة العسكرية لا تسمح بالتطاول على قدر الجيش. الناصرية استعانت بالجيش بدلاً من الديمقراطية في حكم مصر. لكن الجيش المصري كان ولا يزال المؤسسة الوطنية الأكثر انضباطاً. وتنظيماً، عندما أفلتت الانتفاضة من العقال. كان عصر عبد الناصر في الخمسينات والستينات عصر التحرر من الاستعمار، لا عصر الحرية. وأقرأ اليوم في الصحافة الغربية كثيراً عن «الرئيس الديمقراطي» محمد مرسي الذي انتُخب بحرية تامة! هذا الكلام ليس صحيحاً. ولم يكن مقبولاً تدخل الرئيس باراك أوباما، لإبقاء «الإخوان» في حكم مصر. أين كان شباب الانتفاضة والإنترنت، عندما بدأ الإخوان الحاكمون، في تهميش التعددية السياسية والحزبية. والاعتداء على حرية الثقافة باسم الدين؟ أين كان شباب العصرنة والحداثة، عندما أصبح تاريخ مائتي سنة من إشعاع مصر الثقافي والفكري، والمزج بين الأصالة والحداثة مهدداً؟ لو لم تساند المؤسسة العسكرية الشعب المصري، لما تم إنهاء «النظام الإخواني» التعسفي، ولما انتخب عبد الفتاح السيسي رئيساً. بل أذهب إلى القول إن السيسي لا يزال يتمتع بثقة الشعب والرأي العام. والدليل الأكبر أن المواطن المصري المثقل بالهموم قَبِل بالسكوت عن رفع الدعم عن سلع غذائية وتموينية أساسية، وعن التضخم (غلاء الأسعار) الذي يجتاح السوق. أنزل الرئيس السيسي الجيش المصري لمشاركة الشرطة وأجهزة الأمن في حراسة دور العبادة. وأمّن الشارع الشعبي. لم يفعل ذلك رؤساء مصر، باستثناء السادات الذي اعتبر انتفاضة الجياع (1977) انتفاضة «حرامية». وعندما أخفقت شرطة الأمن المركزي، الرديف للشرطة العادية، في إنهاء الاحتجاج على الغلاء وفساد اقتصاد «السداح مداح»، أنزل الجيش إلى الشارع، بقدر محدود. ومؤقت، لاستعادة «الهدوء». أخفقت المرجعية الدينية التقليدية الحليفة للنظام العربي، في تبديد خطر الفكر «الداعشي» و«القاعدي». لا بد من تجديد الخطاب الديني ليتناول الهموم الحياتية اليومية بروح العصر، لا بتقاليد مضى عليها أكثر من ألف سنة. أسمع خطب الجمعة في المساجد، نعم، لا بد من الابتهال لله جلّ قدره وحكمته. وتمجيد السلف الصالح. والكلام الإنشائي عن التسامح. لكن ماذا عن حياة المسلم المعاصر اليوم؟ عذاباته. آماله. آلامه. تسامحه. أو تشدده؟ لماذا لا يقدم مشايخ المنابر أمثلة وشواهد عن التسامح والتزمت منتزعة من صميم حياتنا اليومية؟ أيضاً، لا بد من تغيير تقاليد التربية المنزلية. المجتمعات العربية تعرف كيف تتناسل. وتنتج أطفالاً. ولا تعرف كيف تربيهم. دفع الفقر والكثافة السكانية بملايين الأطفال إلى الشارع. البيت هو المدرسة الأولى. الأب والأم مسؤولان عن مراقبة سلوك جيل المراهقة. وحمايته من الأفكار الدينية المتزمتة. لا حرية لمشايخ السياسة والتلفزيون. لا حرية لإفتاء متناقض. ضيق. يتناول قضايا جانبية من دون أسانيد صحيحة من القرآن. والشريعة. والحديث النبوي. نعم، الإسلام دين الوفرة البشرية والسكانية. لكن لا بد من أن تمتلك الدولة والمرجعية الدينية الشجاعة والحزم لتنظيم الأسرة. وربط التناسل وإنتاج الأطفال بالإنتاج الاقتصادي. المجتمع العربي المؤلف مثلاً من 35 مليون إنسان، ينتج سنوياً نصف مليون طفل. بمعنى أن هناك نصف مليون شاب وشابة يصلون كل عام إلى سن العمل. فلا يجدونه. لا دعوة تلفزيونية لمقاطعة النصارى. يجب منع دعاة الفتنة الذين يدعون إلى عدم مصافحة المسيحيين. الأقباط ليسوا أقلية. أو جالية محلية أو أجنبية غريبة. الأقباط هم مصر. الأقباط ليسوا في حاجة إلى الدين الإسلامي أو المسيحي لحمايتهم كأهل ذمة. الأقباط متساوون في الحقوق والواجبات مع المسلمين. الدولة مسؤولة بحكم الشريعة عن حماية أمن الأقباط المصريين في مصر. والمسيحيين في العالم العربي. قاتل الغساسنة المسيحيون جنباً إلى جنب مع إخوتهم العرب المسلمين الإمبراطورية البيزنطية. وحرروا الشام (سوريا) من الاحتلال الأجنبي. وقاتل الأقباط في حروب مصر. شاركوا في تحرير قناة السويس ومدن القنال. قاد الفريق (القبطي) فؤاد عزيز غالي فرقة مصرية كاملة في حرب أكتوبر (تشرين الأول). وعبر بها القنال إلى داخل سيناء التي يقتل إرهابيوها اليوم الأقباط. ويهجّرونهم منها. كان حزب «الوفد» الليبرالي وطناً مشتركاً للمسلمين والأقباط. وبقي المثقف والسياسي القبطي مكرم عبيد سكرتيراً لحزب الوفد 15 سنة، ومحرك السياسة الوطنية المصرية، منذ وفاة المؤسس سعد زغلول (1927) إلى اختلافه مع مصطفى النحاس. والاستقالة من وزارة الوفد (1943) احتجاجاً على الفساد. وعندما اشتدت حركة «الإخوان المسلمين» في دعوتها للفصل بين الأقباط والمسلمين، كان مكرم عبيد يقول بالصوت الصريح. والقلم العريض: «الأقباط عرب». نعم، الأقباط عرب الثقافة واللغة المشتركة. لا عرب العنصرية الضيقة. نقلا عن صحيفة الشرق الأوسط اللندنيةشارك هذا الموضوع:اضغط للمشاركة على تويتر (فتح في نافذة جديدة)انقر للمشاركة على فيسبوك (فتح في نافذة جديدة)اضغط للمشاركة على Google+ (فتح في نافذة جديدة)