هل يكون الصحافي خالي الوفاض حين يعود إلى تقليب دفاتره العتيقة؟ قرأت خبر رحيل الشاعر الروسي يفغيني يفتوشينكو (1932 - 2017)، فتذكرت على الفور عنوان المقابلة التي أجريتها معه: «الحكومة عابرة والقصيدة باقية». وحين فتشت في ملفاتي وجدتها منشورة في مجلة «الوطن العربي» التي كانت تصدر من باريس، بتاريخ العشرين من مارس (آذار) 1980. مسحت على شعري وقلت كما قال ذلك التونسي المقهور: «هَرِمْنا..».. لم تكن قصائد كثيرة له قد ترجمت إلى العربية. لكن شهرته وصلتنا باعتباره شاعراً غنائياً جريئاً قادراً على أن يملأ ملاعب كرة القدم. رأينا صوره واقفاً بقامته الفارعة، مشيقاً مثل حرف ألف، يقرأ قصائد احتجاج تنتقد النظام السوفياتي. يعرف الظروف ويدوزن الجرعات ويحفظ حدوده، بحيث لا تودي به القافية إلى سيبيريا. وحتى سيبيريا كان يعرفها لأنها مسقط رأسه. ويومذاك، لم يكن أحد من ملايين السوفيات الذين يرددون قصائده، يتوقع أن يلفظ شاعرهم أنفاسه «لدى العدو»، في الولايات المتحدة الأميركية. كانت موسكو تستعد لتنظيم مهرجان كبير له، هذا الصيف، بمناسبة بلوغه الخامسة والثمانين. لكنها استقبلت جنازته. أوصى أن يدفن قريباً من مثوى باسترناك، صاحب «دكتور جيفاكو». هل يكون يفتوشينكو قد خالف عنوان كتابه: «لا تمت قبل الأوان»؟ في أحد مؤتمرات «اليونيسكو» في باريس، وجدته واقفاً وحيداً يضجر في البهو، خارج القاعة. كان يشبه صوره إلى حد كبير، ولا يمكن إلا أن يكون هو. طلبت أن نتحدث فلم يتردد. وراجعت في رأسي ما كنت قد قرأته عنه وعن قصائده. هذا هو شاعر الحب الذي يجيد مزج المرأة بالوطن امتزاج السمن بالعسل. إنه النسخة الروسية من «سيّابنا». وبدل أن أقول له هذا، بادرته بأنه يكتب شعراً مباشراً. كان نزقاً عراقياً مني وطيش شباب. لم ينزعج وأجاب أنه لا يخجل من هذه الحقيقة. فالأمر يعتمد على شخصية كل شاعر. مثلاً، لم يكن باسترناك شاعراً سياسياً مباشراً. في حين كان ماياكوفسكي شاعراً ثائراً منفتحاً. لكنهما عملا بالقدر نفسه للسلام وللبشرية. والشاعر الحقيقي هو الذي يدافع عن حقوق البشر وعن البسطاء الذين لا يجيدون كتابة الشعر، ولا حتى الكتابة. وهنا استشهد بعبارة لدوستويفسكي: «الجمال ينقذ العالم». سألته إن كان يستطيع أن يعبّر بكل حرية عما يريد. وردّ بالإيجاب. لكنه استدرك أن هذا لم يكن ممكناً في زمن ستالين. وهو، في تلك الفترة، كان صغيراً في السن بشكل لا يدع مجالاً لمؤاخذته. وحتى في زمن خروشوف، حدث أن كتب أشعاراً لم تعجب الآخرين. ورفض بعض الناشرين طباعتها. لكن هذا موضوعاً آخر. فللشعر في بلاده صدى كبير. وأي ناشر لم يكن يطبع كتاباً بأقل من 100 ألف نسخة. وهناك مجلات أدبية توزع 3 ملايين نسخة من كل عدد. وهذا يعني، فعلياً، أن عدد قراء العدد يزيد على 10 ملايين. وهنا أبدى أسفه من أن مستقبل اللغة الروسية، رغم غناها، لا ينبئ بإمكانية استنباط أوزان جديدة. «حتى أنا الذي كنت دائماً سيد الوزن والقافية، وهذا رأي أعدائي بي، فإنني كتبت أخيراً قصيدة دون وزن ولا قافية». عن موقعه بين شعراء بلاده، قال إن هناك من يعتبره أفضلهم. أما هو فلم ينظر للشعر نظرته إلى سباق للخيول، حيث يجب أن يكون هناك فائز أول وثانٍ وثالث. إن الشاعر العظيم، برأيه، لا يملك الوقت للتفكير في البلاهات. لقد منحوا، قبل الحرب الأولى، شاعراً من الدرجة الثانية لقب «ملك الشعراء». ولعل هناك بين الأدباء من يسعى لأن يكون وزيراً. لكن لينين كتب بوضوح أن الإنسان عندما يتكامل فإنه لن يحتاج إلى أي نوع من أنواع الحكومات. إذن، الحكومات شيء عابر لكن الشعر مستمر وأزلي. زالت حكومات وانهار الاتحاد السوفياتي بقضه وقضيضه. في حين قال المحلل السياسي والناقد الأدبي ألكسندر ميكين، في تأبين الشاعر، إن يفتوشينكو كان فوق السفراء ووزراء الخارجية. سعى زعماء العالم لمد علاقات معه. وكنت تجد من بين أصدقائه رؤساء الولايات المتحدة وكوبا. أما الطلاب فحفظوا قصائده عن ظهر قلب. الحبيب يهمس بها لحبيبته. وسيبقون يرددونها.