×
محافظة المنطقة الشرقية

«التعليم العالي» ينظم زيارات تفقدية لعدد من مؤسسات التعليم

صورة الخبر

عقب جدل صاخب حول اللغة التي تكلم بها آدم، أصدرت الجمعية الصوتية الدولية قرارها بعدم جدوى المسألة برمتها. وكانت هذه الجمعية التي أسسها جماعة من علماء الأصوات الأوروبيين في العام 1866 قد شهدت جملة من الآراء المتعارضة، التي افتقرت في جلها إلى الموضوعية واتسمت بنزعات غير منهجية في غالبها. وهذا الجدل الذي لا يفضي إلى شيء يعود من جديد لكن في سياق مختلف، وحول موضوعة مختلفة، تمس ما يسمى برواية الريادة في ثقافتنا العربية الحديثة. وعلى رغم الجهود العلمية التي صنعها البعض في هذا السياق، والتي لا يمكن إنكارها أو تجاهلها إلا أن ثمة ظلالاً صاحبت الموضوع برمته. وهنا محاولة لمساءلة الذهنية العربية في سعيها المتواتر لتثبيت اللحظة الجمالية والتاريخية من جهة، وانصرافها عن راهن الإبداع وتحولاته من جهة ثانية. أعاد الإعلان أخيراً عن اكتشاف رواية لطه حسين اسمها «خطبة الشيخ»، إلى الواجهة قضية الريادة العربية في الرواية، هذه القضية التي تتصل في جوهرها العميق بأسئلة النهضة وتمثيلاتها الجمالية. وإذا كان البعض رأى في رواية «زينب» (1913) للمصري محمد حسين هيكل؛ أول ما وصل إلينا من قص عربي حديث، فإن ذلك لم ينفِ وجود روايات أخرى أسبق زمنياً على نحو ما نرى في «الساق على الساق فيما هو الفارياق» (1855) لأحمد فارس الشدياق، وغيرها. ويلاحظ أن مَن حاولوا صُنع هذا الالتباس النقدي كانوا أول من ضربوا التصور الأكاديمي الممنهج في مقتل حينما طرحوا فهماً أحادياً للمنطق الديموقراطي للكتابة القائم على التجاور لا الصراع، واعتبروا الكتابة الأدبية فعلاً تراتبياً، يذود كل نوع أدبي عن نفسه وكأننا في معركة حربية! وهذا الفهم لا يتسق ولحظة ثقافية متحولة وأخرى أدبية لم تعد القواطع الصارمة بين الأجناس الأدبية قائمة فيها على هذا النحو المسيطر، خصوصاً بعد شيوع حالة التراسل بين الفنون الأدبية المختلفة. واستمراراً لحالة الالتباس الأكاديمي المصنوع الذي يعبر عن سلطة ثقافية تصادر العقل النقدي، ثار جدل لم يفض سوى إلى تكريس تصورات قديمة حول قضية الريادة، بدلاً من السعي أولاً إلى تحرير المصطلح، ثم تخليصه من فوائض المعنى الذي تم استقطابه سياسياً، بدلاً من الإبقاء عليه في حيز المعرفي. وهكذا صار بعض تصورات المشتغلين بتاريخ الأدب تعبيراً عن مأزق العقل العربي في سعيه صوب الركون، وتغليب النزوع القبلي والعشائري. إن اللغة بوصفها بناء إشارياً يعبر عن أبنية تنبع من ذوات اجتماعية، هي محصلة لجملة تفاعلات إنسانية، تتمظهر في النص الأدبي بوعيه المتعدد وأصواته المتداخلة. وعبر هذا الفهم تصبح روايات الريادة مجلى لعالم متعين في سياق ناهض مؤسس لرافد مهم من روافد الوعي العربي المعاصر. ومن هنا نجد أننا في حاجة ماسة إلى استعادة إرث طه حسين بوصفه إرثاً للعقلانية المتجددة ورفضاً لعناصر التكبيل في ثقافتنا المستلبة صوب القمع والاغتراب والميتافيزيقا. وسيكون من الحتمي أيضاً أن نربط المنتج الأدبي بنصوصه المعروفة والمجهولة بإرث التنوير ذاته؛ ليس بوصفه عطاء لدُنّياً ينطلق من مركز أحادي للمعرفة، ولكن باعتباره حلقة مركزية من حلقات تحرير الوعي العربي وتثويره في آن. إن محاولة «تأميم» طه حسين إنما يعد أعلى تمثيلات الفكرة التي تدعي احتكار المعرفة من جهة، والنظر إليها بوصفها فعلاً استاتيكياً؛ من جهة ثانية. وسيكون ساعتها ذلك النقد مجلى لتصورات سابقة التجهيز صوب العالم والنص والأشياء. إن تحرير الفكرة بات غاية متعاظمة في عالمنا العربي وفي فكرنا النقدي المعاصر ولن يبدأ ذلك إلا باستعادة قيم العقل النقدي الشاك والمتسائل الذي يرى في خطابه تعبيراً عن جانب من الحقيقة والمشهد، وليس قبضاً على تصورات رجراجة بطبيعتها، ومن ثم فهي تحتمل عشرات الخطابات الفكرية طالما اتسمت بالنزعتين العلمية والمنهجية، وطالما أعلت من قيم النزاهة والشفافية. وهذا جميعه قرين بذلك الوعي الممكن القادر على الاستشراف والتخطي والمجاوزة، وليس الجمود والركون والثبات. وبعد... إن وهم الاستيلاء على المعنى يكشف عن نزوع في إحلال قيم استهلاكية محل أخرى راسخة، ومن مآسي واقعنا الفكري والنقدي أن العقل النقلي المتذرع برُطانٍ لا ينتهي عن قيم الحداثة وما بعدها، يعمل دوماً على محوها.