"ما زلتُ صغيراً، وما زال العمرُ أمامي طويلاً، سأحققُ ما أريد، وسأثبتُ لهم جميعاً أني لستُ بمجنون"، هكذا قال لنفِسه وهو يُحاولُ أن يُقاوم ذاك اليأس المُتسرب إلى قلبه من بعد نوبةِ تهكّم معتادة من أمّه وإخوته عندما رأوه داخلاً للبيتِ، مُمسكاً بعض الكتبِ القديمة التي اشتراها من بائع مُتجوّل مرّ بحِماره الهزيل من أمام بيتهم المليء بالأسى والحكايات المُحزِنة. "سامحكَ الله يا أبي! رحلتَ بحبّك وتِحنانك وتركتني أقاسي هذا العالم وحدي" خاطب نفسه، وهو يتذكّر أيام الصّبا التي لم يكن يحمل فيها همّاً، والتي لم يكن يعلم وقتها طعمَ الفقدِ ولا مرارةَ البؤسِ، ولم يكن يدري معنى الخذلان ولا صورة الانكسار. "وبي أملٌ يأتي ويذهب.. لكن لن أودعهُ" وقعت عيناه على الجملة، عندما فتح صفحةً في منتصف أحد الكتبِ التي اشتراها من البائع المتجول ذي الحِمار الهزيل، فابتسم وقال لنفسه: ما أسهل الكلام، ثمّ تذكّر تهكّم أمّه وإخوته فنمت في صدرهِ غُصّة، فأطفأ نور الغرفةِ واستلقى على سريره وأخذ ينسجُ أحلاماً من خيال، أحلاماً يرى فيها أمّه تحدث جاراتِها بفخرٍ عمّا حققه ابنها في القاهرة، وإخوته متحلّقون حول التِلفاز يُشاهدون لقاءه الذي يتحدث فيه بتُؤدة عن آخر أعمالِه الأدبية. قام من النوم مفزوعاً.. وبأنفاسٍ مُتَهَدجةٍ حَمِدَ ربّه أنه كان مُجرد حُلمٍ مُفزع.. ولما جال ببصره في الغرفةٍ رأى أخته تعبثُ في كُتُبِه وتلتقط بكفيها عَبرَاتٍ فرّت من جفنها المحموم، فنادى عليها.. لم تلتفت.. كرر النداء؛ فانصرفت.. غَضِبَ وقفز من مخدعِه ليلحق بها كي يُعنّفها على ذاك التجاهل. خارج الغرفةِ رأى أمه مُتّكِئةً على أخته وتقول لها في أسى: لم يحب أحداً في حياتِه مثلما أحبك، فبكت أخته في مرارة وأكملتا المسير. في تلك اللحظة فقط لاحظ السواد المُتّشحة به ملابس المرأتين، فعِلم أن ملاكَ الموتِ قد زار أحد الأقربين، فنزل من الطابقِ الثاني إلى صحن الدارِ فوجده مكتظاً بالزّوّار الذين لا يظهرون إلا في الأفراح أو المآتم، رجال ونساء، وحتى أطفال، وارتفع صوتُ الشيخِ بسورة يس. لم يترك أحداً إلا وسأله: من الذي مات؟ من الذي مات؟ يسأل وقلبُه يكاد ينخلع من جوفه، يسأل وهو في فزعٍ من إجابة السؤال، يسأل لكن لا أحد يرد.. فيصرخ فيهم ولا يُجيبون صراخه بغير البكاء! "يبدو أن الميتَ شخصٌ عزيزٌ عليّ، وجميعهم يخشون عليّ من الصدمة، ولهذا هم ممتنعون عن الكلام" هكذا قال لنفسِه مُحاولاً تبرير صمتهم المريب. أعصابه لم تعد تتحمل.. صَعدَ إلى غرفته كي يأخذ قرص دواء الضغط الذي يبدو أنه قد وصل إلى درجة حادة من الارتفاع. وفي الغرفةِ رأى عمه الأصغر جالساً على سريره ينظر إليه مبتسماً، فاستهجن الابتسامة في هذا الجوّ السّائدِ من الحزنِ، لكن الابتسامة شجعته أن يسأل؛ فجلس بجوار عمه على مقدمة السرير، وقال بصوتٍ يشبه البكاء: عمّاه. أرجوك أخبرني من الذي مات؟ فزادت ابتسامة العمّ اتساعاً، واتسعت معها حدقتا عين الفتى من الرعب، فقد تذكر الآن فقط أن عمه الأصغر قد مات منذ سنين.. مات بعد موت أبيه بعام واحد فقط. فارتفعت نبضاتُ قلبِ الفتى، وأراد أن يهربَ فلم تحمله قدماه.. حاول أن يصرخ لكن لسانه قد عُقِد.. خارت قواه فهبط مهدوداً على السرير الذي مدده عليه شبح عمّه المُبتسِم.. والتصقت ساقاه ببعضهما وهو يُمنّي نفسه أن يُفيقَ من هذا الكابوس المُفزِع. وقبل أن يفقد الوعي تماماً رأى وجوهاً كثيرة قد أحاطت بالسرير، وسمِع صوتاً مألوفاً يشقّ الضباب الآخذ في الانتشار، يقول في حنُو: حمد الله على السلامة.. فوجّه عينيه بكل ما تبقى ما فيهما من طاقة تجاه الصوت، ثم توقف عن المقاومة تماماً وأغمضَ عينيه بعد أن ميّزَ بصعوبةٍ شديدةٍ وجه أبيه. ملحوظة: التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.