< «الوهم» أو «الإيهام» صفة أزلية ترافق الإنسان منذ خلقه الأول. تورط فيها أبونا آدم وأمنا حواء بغواية إبليس اللعين، مع الفارق الوحيد أنه غذي بمعارف إلهية اصطدمت بالتجربة التي لم تكن تسعفه لمواجهة خصمه اللدود، وهكذا دواليك ظل الإنسان عرضة لتبعات الجهل وشح التجربة، فإن لم يقع في فخ الحاجة الأولى وقع في فخ الثانية، فعندما تبدو الأشياء أمامه غير واضحة أو غير مرئية تصبح اختياراته مدفوعة بقوى خفية لا يدرك مخاطرها مستقبلاً عليه، حتى يصطدم بواقعه المرير ليكتشف أنه كان مدفوعاً بشهواته الآنية ورغباته المستقبلية من دون حساب دقيق لتفاعلات المجتمع من حوله، ومن دون قراءة واعية ومتأملة لواقع المجتمعات الأخرى التي لا تبتعد عنه كثيراً في الظروف والتحولات، فلربما الفاصل بينه وبينها زمني لا يلبث أن ينحدر نحو الهاوية بشكل دراماتيكي غير محسوس. المشكلة الكبرى والمصيبة العظمى حينما نسلم عقولنا لـ«يقينيات» مطلقة، بينما هي في حقيقتها لا تبلغ سدة الحقائق ولا التجارب العملية الكاملة، ليكتشف ذات يوم أنه أضاع حياته سدى وأنه لم يكن بمعزل عن عالم الوهم والواهمين الذين أسلموا قيادهم لمزوري الحياة، حتى أصبحوا أساتذة في صناعة الكذب وعلماء في تسويقه بين الناس. أولئك الأصناف من البشر وجدوا لقمة عيشهم بهذا النوع من التجارة، حتى أصبح لها أربابها المهرة ومدارسها وجامعاتها، ليستتب الأمر لهم ولأفكارهم بما يشبه العادة أو التقليد، وقد يصل إلى العقيدة التي تعبأ بها أرواح البشر قبل عقولهم. إنك لن تجد لعبة الإيهام هذه مستشرية في أوصال مجتمع ما مثلما هي مستشرية في أوصال مجتمعاتنا العربية، لأن عقولنا تفتحت باكراً على تقديس الأشياء المتحولة، تبدأ من السياسي مروراً بالديني وانتهاء بالاجتماعي، ولعل هذه الأركان الثلاثة تحمل بنياننا العقلي من مسلمات غير آمنة هي أن الإنسان بطبيعته انقيادي ينشد السلام والأمن أكثر من الحرية، يتشبث بالكائن أكثر من كينونته، وهذا لعمري خطل يجافي عين الصواب المبني على تجاربنا المرة الحية، إذ لا يمكن الانتقاص من أحدهما من دون تأثر الآخر به، فالحرية مطلب وجودي والأمن والسلام مطلبان حياتيّان لا غنى لأحدهما عن الآخر، فاستمراء تقديم أحدهما على الآخر من الأسباب المباشرة لكل نكساتنا الحضارية حتى أصبحنا مسخة بين الشعوب المتحضرة، فلا حرية بلا أمن وسلام والعكس صحيح. لم يكن الفقر والحاجة وحدهما قادرين على تحريك الناس نحو الفوضى ما دام الناس وسلطاتهم يتقاسمونهما سواسية، ومتى اختل هذا الميزان ارتبطت المسألة بالعدالة والكرامة التي تنبر في وجدان الشعوب وتتحين لها فرجة صغيرة للانفجار، وشواهدنا على هذا كثيرة، ولتقريب الصورة قليلاً لنأخذ مثلاً الرئيس القائد القومي صدام حسين، بمثل هذه التوصيفات نمت شخصية الرئيس وتملكت عقول الناس وتطلعاتهم داخلياً وخارجياً، كان العراق يساوي صدام حسين لا أحد يستطيع مجرد التشكيك أو حتى إسقاط صفة واحدة من صفات التعظيم التي وضعته في مصاف الإلهة، وإن لم يعبر بهذا صراحة إما خوفاً أو إيماناً لا أحد يستطيع حينها فتح ملف فساد صدام، كما لا أحد يناقش انجازاته بتجرد حتى قاد العراق إلى الهاوية. هل كان سيئاً على الإطلاق؟ لا، أبداً. هل كان صالحاً بلا حدود؟ لا، أبداً. كل ما هنالك أن الوهم الذي كان يتحدث آنذاك يزرع أكاذيبه في عقول الناس حتى تاه الصدق بينهم أو أنهم وأدوه إلى حين زلة يقتص لهم منه بسببها، لا أحد ينكر أن التعليم في زمن صدام بلغ درجات متقدمة، لكنه تعليم محفوف بتبجيل الزعيم، لا أحد يكذب الأمن إبان عهده، لكنه أمن محكوم بالحديد والنار، ويوم انفجر صمام الأمان وأسقط صدام حسين الجائر الذي لم يراع تبعات ذلك انفجر العراق برمته، وأكلت الثورة المصدرة من الخارج الأخضر واليابس، وراح ضحيتها مئات الآلاف من البشر، ولا تزال «مكنة» الموت تعثو في أرض العراق قتلاً وتمزيقاً وتشويهاً ركب صهوتها السياسيون والعسكر ورجال الدين، لا أحد يستطيع إيقافها إلا الله سبحانه، وكما حدث مع صدام حدث مع معمر القذافي هي ذاتها الأوهام والأكاذيب تتقاسمها الشعوب العربية بقدر حاجتها منها بناء على «قوميتها» السياسة وتشكيلاتها. الركن الثاني في لعبة الأوهام: الديني وهذا له شان وجودي تاريخي، وبقدر حساسية التعاطي معه تكمن مآسينا، خصوصاً يوم خرج الدين من دوره الإصلاحي الأخلاقي إلى العبث السياسي من أجل تحقيق مطامع ذاتية. لا يتوقف الأمر عند هذا فحسب، بل كان لاستخلاص رجال الدين من نسيج المجتمع الطبيعي، ووضعهم تحت «عرائش» إلهية لا يسمح لغيرهم بالاقتراب منها، وتدوير لعبة الوهم على عقول السذج كي يصطفوا حولهم حماة لجلالة قدرهم وقدسيتهم التي لا يشاركهم فيها أحد، وقد سمح لهم من دون غيرهم بالحديث عن كل شيء من دون تحفظ، وأن تتخذ أحاديثهم فتاوى منصوص عليها بشرع إلهي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ركن الوهم الثالث ذاك المتعلق بتصنيفات المجتمع وتفصيلاته «الاثنية»، تتقاسمها العرقية والطائفية والجهوية، وهذا الركن الأشد في معادلة اللعبة السياسية والدينية، فمتى ما تمكنت هذه التقسيمات من المجتمع لأسباب تتعلق بتأكيد هوية جزئية يستعاض بها عن الهوية الشاملة التي لم تعد ذات قيمة مقنعة، لعجزها عن تلبية متطلبات الشعب بسواسية، خصوصاً تلك الملحة منها، تصبح هذه القوالب المجتمعية منفصلة بعضها عن بعض بقيم يحكمها التمايز والكفاءة الدموية، جاهزة تماماً للعب أي دور يمكنها من الصعود على حساب الآخرين، ولا أدل على ذلك من بلاغات التوجه الخطابي المتضمن في القصائد والشيلات، التي حلت محل الشعر الصحوي ذي الاتجاه الثوري وكلاهما يتجه في سياق واحد ما لم يفطن إلى كل هذه، ويستعاد لف البكرة من جديد بما يخدم الإنسان خارج نطاقات الوهم والإيهام، الإنسان المجرد المستحق للعيش بكرامة بقيم مواطنة حقيقية لا تمايز فيها إلا بالعلم والعمل. * كاتب وروائي سعودي.