"عندما كانت المعلومات نادرة، كرّست الصحافة معظم جهودها للتقصي والجمع. ولكن مع وفرة المعلومات، فإن ما أصبح أكثر أهمية هو معالجتها" (فيليب ماير -كتاب صحافة البيانات، كيف نستخرج الأخبار من أكوام الأرقام والمعلومات في الإنترنت؟). كل دقيقة، يلد العالم من حولنا كماً هائلاً من المعلومات التي، بصيغتها المجردة، تفتقر إلى المعنى، وتكمن أهمية صحافة البيانات Data Journalism في صناعة هذا المعنى، وإيجاد الروابط وتوضيحها للجمهور. توفّر خدمات البيانات المفتوحة، وفيض الإحصاءات في العالم للصحفيين مصدراً جديداً لقصص مثيرة للاهتمام يمكن أن تسهم في كشف الخلافات المجتمعية، وتسليط الضوء على التهميش والظلم السياسي والاقتصادي، كما يمكن أن تزوّد الجمهور بمقاربات جديدة وجذابة في المناقشات حول السياسات العامة وقضايا التنمية. يولي الصحافيون في العالم العربي مزيداً من الاهتمام للفرص التي توفرها البيانات في الآونة الأخيرة، ولكن مع ذلك، تبقى المبادرات لتقديم محتوى قائم على البيانات، قليلة جداً، قياساً بالاهتمام الصاعد في أوروبا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. ما الذي يعرقل تبني الصحافة العربية لهذا الاتجاه الحديث؟ وما الذي تحتاجه الوسائل الإعلامية العربية للاستفادة من الإمكانات الهائلة التي توفرها ثورة البيانات اليوم؟ هذه الأسئلة وأسئلة أخرى تطرق لها 20 صحافياً من 10 دول من العالم العربي وأوروبا والولايات المتحدة، في جلسة نقاش إعلامية نظمتهاالبوابة العربية للتنمية بالتعاون مع موقع رصيف22. الجلسة التي عقدت في 30 مارس 2017 في بيروت، ضمت ممثلين عن أبرز المبادرات المعنية بعالم البيانات في المنطقة اليوم،منظمة “تصوير فلسطين” (Visualizing Palestine)موقع إنكيفادا (تونس)،موقع مختبرات الجزيرة (Al Jazeera Labs)،موقع حبر (الأردن)،موقع إنفوتايمز (Infotimes)،بيانات بوكس (Bayanat Box)،موقع مدى مصر،مركز توثيق الانتهاكات في سوريا،المعهد العربي للتدريب والبحوث الإحصائية، وشركة داتا أورورا. كما ضمت خبراء في صحافة البيانات منصحيفة الغارديان (بريطانيا)، وشركة Statista المتخصصة بدراسات وإحصاءات السوق (ألمانيا)،وموقع Dağ Medya (تركيا)، وشبكة تطوير وسائل الإعلام Internews. رسم بياني من إنتاج منظمة Visualising Palestineما الذي يعرقل نمو صحافة البيانات في المنطقة؟ الإجابة عن هذا السؤال تبدأ بسؤالين آخرين: هل لدينا بيانات؟ وأي نوع من البيانات تتوفر لنا؟ يجمع العاملون في مجال الإعلام اليوم على صعوبة الوصول إلى البيانات في العالم العربي، وشحّها في الكثير من المجالات. هذه المشكلة كانت وراء إنشاء البوابة العربية للتنمية، وهي مبادرة لبرنامج الأﻣﻢ اﻟﻤﺘﺤﺪة الإﻧﻤﺎﺋﻲ هدفها تسهيل الوصول إلى البيانات والموارد حول قضايا التنمية في العالم العربي. تضم البوابة اليوم قاعدة بيانات لأكثر من 2,000 مؤشر مستخرج من بيانات مكاتب الإحصاءات الوطنية والمنظمات الدولية. تشير فرح شقير، منسقة المشروع، إلى حاجة البلدان العربية لمواقع تعرض بيانات رسمية، إذ يلجأ معظم المستخدمين إلى البيانات الدولية لعدم توفر المعلومات على الصعيد الوطني. وفي حال توفر البيانات، تقول شقير، يصعب الوصول إليها، إما لأنها غير متاحة للجمهور بشكل مفتوح على الإنترنت، أو لأنها منشورة بطريقة لا تسهّل الاستخدام التفاعلي، عبر صيغة PDF مثلاً. ولذلك من المهم تسهيل الوصول إلى البيانات الرسمية كأولى الخطوات في تعزيز الثقافة الإحصائية غير النخبوية والمساهمة في خلق قاعدة واسعة من المستخدمين القادرين على استخدام وتحدّي الرقم، تختم شقير. تؤكد ذلك كله لينا عجيلات، المديرة التنفيذية في موقع حبر الأردني، وتقول: "لدينا إمكانية الوصول إلى التقارير التي تتضمن البيانات، ولكن لا نستطيع الوصول إلى البيانات الخام". في المقابل، يشير قيس زريبة، صحافي في إنكيفادا، إلى إشكالية أخرى متعلقة بالبيانات التي توفرها المراكز الإحصائية الحكومية، ويقول "إلى أي درجة يمكننا الوثوق بهذه البيانات؟". وقد صادف فريق إنكيفادا، وهو موقع تونسي يقدم صحافة استقصائية مبنية على البيانات، خلال عمله، أرقاماً متضاربة صادرة عن السلطة. رسم بياني من إنتاج موقع إنكيفادا التونسي ولكن إيفا كونستانتارس، المدربة في شبكة Internews التي تعمل على تطوير وسائل الإعلام حول العالم، ترفض حصر المشكلة بتوفّر البيانات من عدمها، وتقول "المشكلة هي من المسؤول عن هذه المهنة، ومن عليه العمل بالبيانات، لا مدى توفّر البيانات أو الأدوت المناسبة”. تشير إيفا هنا إلى محدودية الموارد البشرية في المؤسسات الصحافية، انطلاقاً من فكرة أساسية مفادها أن ليس أي صحافي هو صحافي بيانات. تتطلب صحافة البيانات مهارات في التعاطي مع الكم الهائل من البيانات، والقدرة على تحليلها وتفسيرها واستخراج مقاربات جديدة لما يحدث حولنا، بالإضافة إلى القدرة على عرضها بالطريقة الأنسب. وهو أمر لم تلتفت إليه كليات الصحافة في العالم العربي، ولم توضع له بعد برامج تعليمية مناسبة. ولكن محدودية الموارد البشرية لا تتوقف عند مدى توفّر الصحافيين المتخصصين. "غرف الأخبار كانت تضم صحافيين فقط، ليست هذه هي الحال اليوم. الصحافيون يعملون جنباً إلى جنب مع مبرمجين ومصممين ومحللي البيانات لإنتاج تقرير واحد"، يقول علاء البطاينة، من مختبرات الجزيرة، مشيراً إلى غياب فرق العمل المتكاملة والمتخصصة بصحافة البيانات في الوسائل الإعلامية العربية، مع استثناءات قليلة، منها مختبر الجزيرة نفسه وموقع إنكيفادا التونسي. ويعود ذلك بشكل أساسي إلى التكلفة المرتفعة لإنتاج المواد الصحافية المبينة على البيانات، والتي تتطلب مشاركة أصحاب مهارات مختلفة، في ظل التمويل المحدود والأزمات المالية التي تواجهها الوسائل الإعلامية العربية.أقوال جاهزة شاركغردلم يعد بإمكان العالم العربي أن يتجاهل صحافة البيانات اليوم. ما الذي يعيق تطورها بحسب أبرز العاملين بها؟ بالإضافة إلى الاهتمام القليل المعطى إلى أدوات الصحافة الحديثة في الإعلام العربي، واستمرار اعتماده بشكل أساسي على النص، تأتي مشكلة الافتقار إلى أدوات معالجة البيانات التي تدعم اللغة العربية، وهو موضوع تطرق إليه عمر العراقي، أحد مؤسسي Infotimes، موقع متخصص في صحافة البيانات تأسس في مصر. يركّز العراقي على أهمية الأدوات في كل مراحل إنتاج صحافة البيانات، لا سيما في عملية توفير الوقت والموارد. وفي حين تتوفر اليوم العديد من أدوات العرض المرئي للبيانات المفتوحة المصدر، يتضمن استخدامها باللغة العربية الكثير من المشاكل، وذلك في شبه غياب للمبادرات التي تعالج المشكلة.أفضل الممارسات ألقى المشاركون في الجلسة الضوء على الكثير من الممارسات الفاعلة انطلاقاً من تجاربهم الخاصة مع صحافة البيانات. وفي حين ركز الكثيرون على أهمية المحتوى قبل أي شيء، أشار علاء البطاينة إلى أنه لا يمكن فصل صحافة البيانات عن "العرض المرئي للبيانات" Data Visualisation، والوسائل المستخدمة لإيصال المحتوى للجمهور. صحافة البيانات نوع رقمي بكل ما للكلمة من معنى، وكيفما تطورت، فستكون جزءاً من المستقبل شاركغرد وركزت المناقشات على عملية إنتاج محتوى صحافة البيانات، وكيف يمكن تحويل البيانات الخام إلى قصص بصرية لافتة للنظر، وأفضل الممارسات لإدارة سير العمل، وكيفية إنشاء الفريق، وتقنيات صحافة البيانات وأدواتها، بالإضافة إلى احتياجات التدريب. قدّمت إيفا كونستانتارس من إنترنيوز خمس نصائح لخطة فاعلة في إنتاج صحافة البيانات: 1- تفادي إهدار جهد بلا طائل، البدء بمجموعات بيانات بسيطة ثم تطويرها شيئاً فشيئاً 2- البدء من البيانات المتوفرة بين أيدينا 3- الانطلاق من السؤال لا البيانات 4- إعطاء الأولوية للقصة التي نرويها لا لكيفية عرضها أو تصويرها 5- طلب المساعدة من متخصصين. وتناولت المناقشات العلاقة مع الجمهور وتأثير صحافة البيانات على قراء اليوم، في عالم يعتمد بشكل كبير على الصورة، بالإضافة إلى إيجابيات وسلبيات زيادة الاعتماد على منصات وسائل التواصل الاجتماعي لمستقبل الوسائل الإعلامية. وأشارت عبير غطاس، مديرة التواصل الاجتماعي في رصيف22، إلى إمكانية الاستفادة من البيانات لإنتاج محتوى بصري جذاب يفعّل الحضور على وسائل التواصل الاجتماعي، ويساعد في بناء الجمهور. وهو أمر نجح في استخدامه فريق Bayanat box الذي يعتمد بشكل أساسي على تقديم مواد بصرية شيّقة مبنية على البيانات عبر وسائل التواصل الاجتماعي. رسوم بيانية من إنتاج Bayanat Box"تجنّب الإفراط في الدقة" إحدى النصائح التي تقدم عند الحديث عن صحافة البيانات هي "تجنّب الإفراط في الدقة"، ففي حين من الضروري أن تكون الرسوم البيانية التي تُعرض صحيحة بشكل عام، فلا حاجة للقلق إن كان لدينا عدة مستويات من التقريب أو إذا لم تصل نسبة الدقة إلى 100%، أو إن كنا نفتقد بيانات بعض السنوات، ما دمنا قادرين على رؤية الاتجاهات الرئيسية وما علينا عرضه. كما لا بد من تفادي الإفراط في عرض المعلومات، والعمل على إبراز الفكرة الأهم التي نرغب في إطلاع الناس عليها، حتى لو عنى ذلك حذف بعض المعلومات التي قد تبدو للوهلة الأولى مهمة. هنا تركز منى شلبي، صحافية في مدونة الغارديان للبيانات، على أهمية أن تكون الفكرة التي نعرضها مباشرة ومبسّطة، وأن تحاكي احتياجات القارئ علينا أن نقدّم بيانات تتيح للناس أن يجدوا شيئاً منهم في القصة التي نرويها". عمل منى شلبي يعدّ نموذجاً عن إمكانية استخدام صحافة البيانات لمقاربة أي موضوع كان، بدءاً من عدد المرات التي بحث فيها مستخدمو الإنترنت عن جملة “هل سأموت وحيداً؟”، وصولاً إلى الأماكن التي يموت فيها الناس عادةً، وذلك دون الالتفات إلى دقة عرض النسب والأرقام، ما دامت الفكرة العامة تصل للمشاهد. من رسوم منى شلبي، صحافية في مدونة الغارديان للبياناتالحاجات والتوصيات في معرض المضي قدماً، شدّد المشاركون على أهمية تطوير صحافة البيانات في المنطقة من خلال الاستثمار في تعزيز الوصول إلى البيانات، وذلك عبر تعزيز العلاقة مع منتجي البيانات ودعم بوابات البيانات، بالإضافة إلى تطوير أدوات عرض مرئي للبيانات مفتوحة المصدر، مصمّمة خصيصاً للمحتوى باللغة العربية. وتطرقت إيفا كونستانتارس إلى أهمية العمل على تقييم محلّي للبحث في كيفية دمج صحافة البيانات وتطويرها في كل بلد على حدة. وأشارت كل من عبير غطاس وعلياء العلي إلى ضرورة أن يحظى الصحافيون بدعم في ما يتعلق بتحليل البيانات، إذ لا يستطيع الصحافي القيام بوظيفة الاقتصاديين وصانعي السياسات. أما عمر العراقي، فأكّد على أهمية التشبيك وتبادل الخبرات بين الجهات العاملة في مجال صحافة البيانات في العالم العربي، ودعم المحتوى العربي الذي يعزز هذه الثقافة، ووضع جوائز لصحافة البيانات في المنطقة للتشجيع على استخدامها. ولكن الأهم من كل ذلك، هو توفير فرص التدريب وبناء القدرات في مختلف المجالات المتعلقة بصحافة البيانات. ورغم أن بعض المبادرات تجد طريقها إلى العالم العربي، فإنها تبقى عاجزة عن إحداث تغيير نوعي لأنها سريعة ولا تشمل المتابعة المناسبة. علماً أن صحافة البيانات لا يمكن تعلّمها في أسبوع أو أسبوعين. وبناء قسم لصحافة البيانات يكون مستداماً يتطلّب تدريباً مكثّفاً. يشمل البرنامج التدريبي الذي تقدّمه إنترنيوز لتطوير صحافة البيانات مثلاً نحو 200 ساعة تدريب لأعضاء الفريق، على أن يتم التدريب في مكاتب الوسيلة الإعلامية، وأن يليه نحو 6 أشهر من الإرشاد والمتابعة. لم يعد بإمكان العالم العربي أن يتجاهل أهمية استخدام البيانات اليوم، أكان في الصحافة والإعلام، أو كأداة أساسية في عمل المناصرة ودعم التغيير. فكما قال ديفد لوشه من مؤسسة ستاتيستا "إنه نوع رقمي بكل ما للكلمة من معنى، وكيفما تطورت، فستكون صحافة البيانات جزءاً من المستقبل". رصيف 22 رصيف22 منبر إعلامي يخاطب 360 مليون عربي من خلال مقاربة مبتكرة للحياة اليومية. تشكّل المبادئ الديمقراطية عصب خطّه التحريري الذي يشرف عليه فريق مستقل، ناقد ولكن بشكل بنّاء، له مواقفه من شؤون المنطقة، ولكن بعيداً عن التجاذبات السياسية القائمة. التعليقات